أن يتوصل المحقق الى الحقيقة في القضية التي يحقق فيها أكثر جدوى وتحقيقاً للعدالة من أن يجبر المتهم على الاعتراف والإقرار بفعل لم يكن قد ارتكبه ، فيكون المحقق قد ارتكب جرائم عديدة غاية في الخطورة ، الأولى هي إنه ساهم مساهمة أكيدة في ضياع الحقيقة وإفلات المجرم الحقيقي ، والثانية إنه تمكن من أن يلصق التهمة بمواطن بريء لم يجد طريقاً للخلاص من القسوة والتعذيب سوى طريق الاعتراف والإقرار ، والثالثة ارتكابه فعلاً يخالف أحكام الدستور والقوانين النافذة الخاصة بأصول التحقيق والمحاكمة ، والوصول الى الحقيقة لايمكن أن يكون عبر كرامة أو حرية المواطن .
يؤكد الدستور العراقي من أن حق الفرد في الحرية لا يجوز حرمانه منها او تقييدها إلا بناء على قرار صادر من جهة قضائية مختصة ، وبناء على قانون ، والمتهم بريء حتى تثبت أدانته في محاكمة قانونية عادلة ، وضمن مبدأ المساواة فإن كل فرد ينبغي أن يعامل معاملة عادلة في الإجراءات القضائية والادارية ، وضماناً لعدم التجاوز على حرية المواطن نصت الفقرة الثالثة عشرة من الدستور بلزوم عرض أوراق التحقيق الابتدائي الخاصة بالمتهم على القاضي المختص خلال مدة لا تتجاوز 24 ساعة من حين القبض على المتهم او تقييد حريته بسبب اتهامه بجريمة ما ، حتى لا يبقى المواطن مقيداً ومحدد الحركة والحرية تحت قيود المحقق ووسائل الروتين .
وقطعاً لدابر أي تصرف أو فعل يتنافى مع مبدأ الحريات التي أكد عليها الدستور في صيانة الحرية والكرامة ، فقد حرم الدستور العراقي في نص الفقرة ( ج ) من المادة ( 37) منه جميع أنواع التعذيب النفسي أو الجسدي وجميع أشكال المعاملات غير الإنسانية ، وهذا التحريم قطعي و حاسم وملزم ، وعد الاعتراف والإفادات المنتزعة من المتهم بالإكراه أو التهديد أو التعذيب لا عبرة ولا قيمة لها في عملية التحقيق وجمع الأدلة وفي مرحلة المحاكمة ، ومنح الدستور الحق للمواطن المتضرر المطالبة بالتعويض المادي والمعنوي الذي لحق به وأصابه وفقا للقانون .
وفي سبيل تطبيق تلك الأسس والمبادئ التي جاء بها الدستور العراقي فقد اخضع قانون أصول المحاكمات الجزائية عمل جميع أعضاء الضبط القضائي من ضباط الشرطة والمفوضين وجميع الموظفين الذين نصت عليهم المادة ( 39 ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل ، أخضعهم جميعاً لرقابة قاضي التحقيق مع أنهم كانوا يقومون بأعمالهم تحت إشراف الادعاء العام ، ولقاضي التحقيق ان يطلب من الجهة التابع لها عضو الضبط القضائي النظر في مخالفة الواجبات أو التقصير في عمله أو محاكمته انضباطياً أو جزائياً عند حدوث جريمة تستوجب التحقيق معه أو محاكمته خلال عمله إو جراء هذا العمل .
كما نصت المادة (137 ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية أنه لا يجوز استعمال أية وسيلة غير مشروعة للتأثير على المتهم للحصول على إقراره ، ويعتبر من الوسائل غير المشروعة
( إساءة المعاملة ) و ( التهديد بالإيذاء ) أو ( الأغراء بالوعد والوعيد ) و ( التأثير النفسي ) واستعمال المخدرات والمسكرات والعقاقير .
ولهذا فان قانون العقوبات العراقي رقم 111لسنة 1969 المعدل انسجاماً مع النصوص الدستورية نص في المادة ( 322 ) على معاقبة كل موظف أو مكلف بخدمة عامة قبض على شخص أو حبسه في غير الأحوال التي ينص عليها القانون ، وحدد عقوبته بالسجن مدة لاتزيد على سبع سنوات أو بالحبس ، وحددت العقوبات الواردة في أحكام الفصل الثالث في المواد من 232 – 421 تجاوز الموظفين حدود وظائفهم بما فيها تقييد الحريات والتجاوز عليها وإساءة استعمال السلطة .
ويلاحظ أن قانون العقوبات نص في المادة ( 333 ) منه على معاقبة كل موظف أو مكلف بخدمة عامة عذب أو أمر بتعذيب متهم او شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجريمة أو للإدلاء بأقوال او معلومات بشأنها أو لكتمان أمر من الأمور أو لإعطاء رأي معين بشأنها ، بالسجن أو الحبس ، وعد استعمال القوة أو التهديد بحكم التعذيب .
كما يمكن تطبيق أحكام المادة 421 الخاصة بالمساس بحرية الإنسان والقبض عليه وحجزه بأية وسيلة دون أمر من سلطة مختصة لتصل العقوبة الى السجن مدة لاتزيد على خمس عشرة سنة على الموظف أو المكلف بالخدمة العامة أثناء تأدية وظيفته أو خدمته أو بسبب ذلك .
نستدل من أن التحقيقات التي تجريها سلطة التحقيق غير قانونية إذا استعملت الإكراه والتعذيب والترهيب . والقسوة في انتزاع الاعترافات والأقوال عن طريق
وليس فقط الأقوال المنتزعة قسراً وبالإكراه والقسوة مع المتهم ليس لها قيمة قانونية أمام المحكمة ، إنما يدلل هذا الأمر على مقدار التعسف والقسوة التي تمارسها بعض النماذج المريضة إنسانياً بحق المتهمين ، وإفراغ مكنوناتهم المريضة ونوازعهم البعيدة عن الإنسانية خلال ممارستهم مهمة التحقيق ، كما تدلل على مقدار الفشل الذي يعانيه المحقق حين تغيب عنه جميع الوسائل المشروعة للتوصل الى الحقيقة فيلجأ الى تلك الأساليب المتخلفة التي عافها الزمن وتركتها جميع البلدان ، وتدل على ما يعانيه المحقق السادي وهو يتلذذ بممارسة أصناف الوسائل والأساليب في التعذيب لانتزاع الاعترافات لتثبت فشله الذريع في عمله كمحقق وعدم مقدرته في أتباع الأساليب الحديثة في التحقيق ، بالإضافة الى عدم معرفته بأساليب التحقيق العصرية المنسجمة مع القانون المحلي أو الدولي أو لوائح حقوق الإنسان ، والمساهمة في ضياع الحقيقة سيان ان كان يعلم من عدمه .
أن للتحقيق أصولاً ينبغي عدم تجاوزها أولاً ، والتحقيق يعني حقيقة الشيء ، وفي اللغة كما جاء في المعجم الوسيط حق الأمر حقاً: صح وثبت وصدق ويقال أحقهُ على الحق: غلبه وأثبته عليهِ ، وحيث أن للإنسان قيمة في جميع الظروف وهذه القيمة لا تلغيها الاتهامات ولا أية ظروف أو أسباب استثنائية ، فهو يبقى إنسان في جميع الأحوال مهما كانت جسامة الفعل المتهم بارتكابه ، وباعتباره متهما والمتهم بريء حتى تثبت الإدانة بأدلة تقتنع بها سلطة قضائية مختصة في هذا المجال .
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 كانون الأول من العام 1948 حدد في
المادة الخامسة انه لا يجوز إخضاع احد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاأنسانية أو الحاطة بالكرامة .
كما أوردت ( المادة 11 ) من أن كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً الى أن يثبت ارتكابه لها قانوناً في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه .
إن تعذيب الإنسان جريمة يعاقب عليها القانون ، ويقصد بالتعذيب كل عمل أو امتناع ينتج عنه معاناة أو الم شديد ، جسدياً كان أو عقلياً ، يرتكبه أحد الموظفين العموميين أو المسؤولين الرسميين من أجل إجبار شخص على الاعتراف أو الحصول منه على معلومات أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في انه ارتكبه هو أو شخص آخر ، أو بقصد تخويفه أو تخويف أشخاص آخرين ، أو إرغامه أو إرغام أشخاص أخرين على شيء ما ، أو لأي سبب آخر . ( المادة الثانية من مشروع اتفاقية منع التعذيب - 1990 (