حال استلامه مهمته الجديدة أصدر حاكم الشمال المطلق الصلاحيات (علي حسن المجيد) مجموعة قرارات تميزت بالاقتصاد الشديد في الكلمات لخلوها من أية هوامش أو شروحات أو استثناءات.
عشرات، بل مئات الكتب الصادرة باسمه قبيل و خلال الأنفال. و لا واحد منها يتعلق بفرد أو عائلة، إنما بجموعات ومساحات جغرافية. وعندما كانت الاعتراضات والاستفسارات تصعد من مراتب المنفذين المختلفة، رد بحزم مطالباً ”على الأجهزة الأمنية عدم ازعاجنا حول الفقرة 5 - وهي الفقرة المتعلقة بإعدام أقارب المخربين من الدرجتين الأولى والثانية _إن قرارنا يفسر نفسه بنفسه، ولا يتطلب موافقة سلطات أعلى ... يجب أن ينفذ دون استشارة ” . تخلو قراراته من أية شروحات او استثناءات، لكنها تنطوي على أوسع دمار ممكن. وتتردد كلمتي ( أي) و (كل) مثل لازمتين في القرارات الصادرة عنه.. ف (المخرب) حسب برنامجه التأديبي لم يعد شخصاً محدداً قام بعمل محدد ضد الدولة ويعاقب بجريرة عمله بالذات، إنما هو ومحيطه العائلي، بل وعائلته بالذات إذا تعذّر على السلطة إلقاء القبض عليه.. وحسب التوجيه السري رقم 435 تعاقب عائلة المخرب بالتهجير حتى لو كان لديها ابناء آخرون يقاتلون مع السلطة. وعلى الطريقة الإسرائيلية تقوم وحدات الهندسة بتفجير بيت عائلة المخرب، و أيضاً الدور الأربعة التي تجاورها.. هكذا ينص الكتاب الرسمي. وحسب القرارات الصادرة في 25- 4 - 1987 يتجاوز العقاب العائلة الى القرية:
- محو كل القرى المتعاونة مع المخربين .
- إطلاق النار على كل من يشاهد داخل الحزام الأمني المحظور .
- تدمر أية قرية يطلق منها عيار ناري ضد قواتنا .
-يعُدم أو يُقدم للمحاكمة الفورية كل من يقدم أية مادة للمخربين.
لكن (مأثرة ) المجيد الحقيقية تكمن في أن استخدام السلاح الكيمياوي أصبح في عهده السلاح الأسهل والأكثر فاعلية لإبادة الحياة في كردستان. ولذلك حمل بجدارة لقب( علي كيمياوي). وقد باشر المجيد عمله في فترة قياسية.. ففي10 نيسان عقد ندوة حضرها عدد كبير من المسؤولين الحزبيين والحكوميين والأمنيين وأبلغ الجميع بقرار إزالة جميع القرى الواقعة على جانبي الطرق والمواقع والمعسكرات الحكومية بالجرافات والقصف المدفعي والكيمياوي وجعل مناطقها ”محظورة أمنياً“. وتبدو كلمة ”محظورة أمنيا“ ملطفة جداً بالمقارنة مع التوجيه الموقع باسم علي حسن المجيد المرقم 3650-28والمؤرخ في 3 حزيران 1987 الذي ينص على منع وصول المواد الغذائية والآلات وعدم السماح للأقارب بالاتصال بأقاربهم هناك وعدم السماح بالحصاد والرعي في هذه المناطق ويلزم البند الخامس“ضمن نطاق سلطاتهم يجب على القوات المسلحة قتل كل كائن بشري أو حيواني ضمن هذه المناطق ”.
في الثلاثة أشهر الأولى من مباشرته عمله حقق انجازات (باهرة) في محو الحياة من 912 قرية وناحية. نتائج الاحصاء لم تعلن من قبل الحكومة، لكنها تسربت لاحقاً وتكشف [أن عدد القرى في محافظة السليمانية قد انخفض من 1877 في إحصاء عام 1977 الى 186 فقط في احصاء عام 1988، أي أن 1700 قرية قد اختفت من الخارطة الرسمية لهذه المحافظة. ومع ذلك لم تكن هذه حدود مخيلة القيادة العراقية لأن الخطة الأبعد مقيدة بمرابطة معظم القوات العراقية على جبهة المواجهة مع إيران. وحال بدء الهدنة تحررت معظم القوات من العدو الخارجي لتتجه نحو العدو الداخلي لتنفيذ الجريمة الأكبر:
وقد بدأ تنفيذ الخطة على ثماني مراحل تمتد من شباط الى أيلول 1988 واستمرت حتى مطلع عام 1989. وقد اتبعت الحملة أسلوب الإبادة الجماعية التقليدي الذي يقوم على الثوابت الثلاث : تحديد – حجز – إبادة . لكن النظام العراقي أضاف لهذه الثلاثية الثابتة بادرة جديدة كونه أول نظام في العالم يستخدم الأسلحة الكيمياوية ضد مواطنيه. وقد استخدمت سورة الأنفال اعتماداً على الآية رقم 11: ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) لأن الآية تنطوي على الفعل ”اضربوا فوق الأعناق ” وعلى الرعب الذي يثيره الفعل ”إلقاء الرعب في القلوب“. وأعود هنا لتعليمات كتائب فرانكو التي توصي بتشديد العقاب على مجموعات تؤوي الجمهوريين، وبضرب هذه المجموعات في مناطق تجمعها ”الذعر الذي سيصيب المدنيين سيؤدي لتحطيم معنويات القوات المنسحبة ”. الرعب سيدفع إلى الاستسلام و يجعل أية مقاومة مستحيلة مادام كل شيء مهما كان جنونياً يبدو ممكن التحقيق من خلال هول الجريمة ..الوسيلة الأمثل لإثارة هذا الرعب هي السلاح الكيمياوي الذي ارتبط باسم المجيد ... وقد التقى الكاتب بالعديد من مدن كردستان العراق بضحايا السلاح الكيمياوي. معظم المدنيين الذين نجوا : لم يتوقعوا ، حتى بعد "حلبجه"، استخدام السلاح الكيمياوي، انما هيأوا انفسهم وطريقة حياتهم مع القصف المدفعي والجوي المألوف في قرى كردستان على مدى سنوات طويلة . لذلك تركزت الإصابات على المدنيين الذين لا يعرفون مفعول الغازات الكيمياوية ولا طرق الوقاية منها، ويروون صوراً مروعة لما حدث ( حين فاجأتنا الطائرات وصوت الانفجارات حولنا كان البعض يقولون هذه غازات سامة ، وآخرون ينفون ذلك. لم تكن غارات الطيران تعطينا فرصة لنستوضح فالطائرات لم تنقطع عن سماء القرية، واذا انقطعت سيبدأ القصف المدفعي والراجمات. أعمدة من دخان أبيض كالملح المرشوش، أو أسود مزرق، أصفر، ثم تنزل السحب الى تحت ، وآنذاك نشم رائحة تفاح حلو، ثم تبدأ الأعراض : ضيق في التنفس حد الاختناق، ودموع مُحرقة تنهمر مقرحة الأجفان حد العمى وسائل لزج ومُحرق يسود الجلد ويسلخه، ونوبات ارتجاف وتقلصات حادة . أناس يدورون كالمجانين وبعضهم دخل في نوبات ضحك هستيري ثم يبدأ الموت حاصداً الأطفال أولاً. تماماً مثل القيامة مع فارق إنها من فعل بشر“ . الفيالق القادمة من جبهة الحرب مع إيران ، قوات الحرس الجمهوري ، قوات الطوارئ ، قوات الجيش الشعبي، الأفواج الخفيفة .. كل هذه القوات شكلت الكماشة اللازمة لمنع سكان القرى المضروبة من الهروب خارج الطوق . بعد ذلك بدأت عمليات فصل الرجال عن النساء ثم الترحيل : ”كنا نترك قرانا محشورين فوق بعضنا بعد أن أُخِذ رجالنا معصوبي العيون ، ومن فوق كنا نرى ألسنة اللهب تلتهم قرانا وبيوتنا . صراخ الاطفال وصراخ النسوة يختلط بصراخ حراسنا وهم يهددوننا بمصير أسوأ من جهنم إذا لم نسكت“ .
لن ينسَ الكرد، وبالأخص الذين عاشوا تجربة الأنفال، ثلاثة أماكن مشؤومة هي :(معسكر الجيش الشعبي في طوبزاوه ) القريب من كركوك ، سجن النساء في دوبز الواقع عند ملتقي طريق كركوك- الموصل، وسجن نقرة السلمان في الصحراء الجنوبية الممتدة الى السعودية. في هذه المعسكرات الثلاثة وصل المرحلون وهم شبه موتى من ضيق المكان والتنفس والجوع والعطش والإحساس بالمجهول. في هذه المعسكرات أنزِل الرجال القادرون على حمل السلاح وأخذوا مربوطين مع بعضهم في حبال جماعية. عُذِبوا وأذلوا بعد أن أخبروا بقرار إبادتهم جميعا كمخربين. بعد جولات التعذيب أوقفوا على حافة حفر طولية مهيأة مسبقاً.. عيونهم مكممة ووجوههم باتجاه الحفر وأطلقت عليهم النار من رشاشات متوسطة ثم غطتهم الجرافات بالتراب.الشيوخ اقتيدوا الى سجن نقرة السلمان ليموتوا هناك دون رصاص، من الجوع وقلة الماء ويلقون فيما بعد طعاماً للكلاب المسعورة المحيطة بالمعسكر.
أما النساء اللواتي اعتقلن في معسكر طوبزاوه فقد عشن عذاباً يهون أمامه الموت بين الخوف على مصائر رجالهن الذين اقتيدوا الى جهات مجهولة و الخوف على الأطفال الذين يذوون على صدورهن من قلة الحليب و يموتون بمعدل ستة أطفال في اليوم الواحد وقد حصل الكاتب على رسالة كتبت على قطعة قماش تروي كيف يؤخذ الأطفال من أيدي الأمهات ويلقون في الحفرحتى قبل أن يموتوا.
الناجون الذين التقيتهم فيما بعد قالوا عن حياتهم لم يعد لها طعم بعد ما رأوه ، وما يربطهم بالحياة هو الانتظار المُر لأي خبر أو معلومة عمن فقدوهم، وهم يعانون ثقل الكوابيس التي تلاحقهم دون فكاك والحلم بعودة المفقودين لا يفارقهم ليلاً ولا نهاراً. في مخيم قريب من أربيل التقيتهم بعد سنوات وسألتهم عن الكوابيس التي تراودهم:
-أسمع قبل النوم بلحظات صرخات متصلة، يخيل لي أنها صرخات حفيداتي.
-أرى حفيداتي جالسات على الأرض بانتظار أن أوزع عليهن الشاي، ثم فجأة يختفين.
-حين أخذوا أهلي بقيت مختفياً في دولاب الملابس… حتى الآن أراني مختفٍ أنظر من شق في الخشب وأرى والدي ووالدتي ينتزهون وأنا أخاف أن أصرخ حتى لا أنكشف.
182 ألفاً من المواطنين الكرد أزيلوا من الوجود في جريمة تمت بصمت دون شهود كما في رواية لمركيز