الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
لكي لا ننسى: ذكرياتي مع الشهيد محمد حسين ابو العيس

معرفتي بالشهيد ابو العيس تبدأ في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات عندما كان يزور بيتنا الواقع في عرصات الهندية في شارع مدرسة "ابن حيان".  وكان الشهيد صديقا لعمي المرحوم عبود رومايا، ويزور بيتنا مع اخرين من رفاقه، وكان الغموض والسرية تحيط هذه الزيارات بشكل عام، وعمي وعائلتي عادة لا يتحدثون معنا نحن صغار العائلة عن هذه الزيارات ومن هم الزوار. ولكن بعد سنوات من استشهادهم عرفت ان من بين الزوار ايضا كان الشهيد جورج تلو واخرون من كوادر الحزب المتقدمة.

وما دفعني للكتابة عن الشهيد محمد حسين ابو العيس بالذات هو الانطباع الطيب الذي تركه في ذاكرتي منذ ذلك الحين عند زياراته لنا، ففي الكثير من الاحيان كان يترك جلسته مع الاخرين في غرفة "الخطار" ويأتي ليجلس معنا انا وأخواتي ويتحدث معنا عن امور كثيرة ويبدي اهتماما بدراستنا والكتب التي نقراها، وكنا انا وأخواتي نسمي عمو محمد "بالرجل الذي يتحدث بيديه" لأنه كان يستعمل يديه للتعبير عندما يتكلم.

واتذكر في احد هذه اللقاءات كنا نستمع الى احدى اغنيات ام كلثوم وجلس معنا الشهيد ودار الحديث حول الغناء والموسيقى وشجعنا عمو محمد للاستماع لأغاني فيروز لأنها تمثل ضمير واحاسيس الفقراء والوطنيين، ومنذ ذلك الوقت وانا من محبي فيروز واغانيها القديمة.

واستمرت هذه الاماسي الجميلة واللقاءات مع ابو العيس ورفاقه الاخرين الى مجيء البعثيين في شباط الاسود 1963، حين قُتل الحب والامل ومعه مستقبل العراق الزاهي.

اما عن عرصات الهندية فبالرغم من انها كانت من المناطق الجديدة في حينها في بغداد وبيوتها فخمة وساكنيها من العوائل العريقة ومن المثقفين والصحفيين والتجار والاطباء والمحامين ومن كل اطياف الشعب العراقي، الا ان الكثير من ساكنيها كانوا يساريون ومن مؤيدي ثورة 14 تموز والاحزاب الوطنية. ولهذا السبب كان بها العشرات من "البيوت الحزبية" و"المطابع الحزبية" التابعة للحزب الشيوعي العراقي والتي اكتشفت بعد انقلاب شباط الاسود.

وكان يعقد في بيتنا اجتماعات موسعة لرابطة المرأة العراقية في المنطقة بسبب نشاط عماتي أكنس رومايا في الرابطة وعمتي بدور رومايا مسؤولة نقابة الممرضات بعد ثورة 14 تموز. وعليه وبعد انقلاب 63 وضع ازلام الحرس القومي علامة حمراء على بيتنا وكانت هذه العلامة تعني مراقبة ومداهمة واعتقال لأهل ذلك البيت، وعليه وخوفا علينا تقرر ان اذهب انا وأخواتي للعيش في بيت عمتي الواقع ايضا في عرصات الهندية، وكان زوج عمتي المرحوم جميل شمعان من المقاولين الكبار ولم يكن سياسيا وعليه كان بيته اكثر اَمنا من بيتنا. ولكن بعد ايام من بقائنا هناك دخل علينا وحوش الحرس القومي في ساعة متأخرة من الليل ووضعوا كافة سكنة البيت في غرفة واحدة وامروني انا اصغر الموجودين بأن اطوف البيت الكبير معهم، وكانت رشاشاتهم واسلحتهم موجه الى صدري ورأسي. وبعد تفتيش البيت عرفنا ان بيت عمتي لم يكن المقصود وانما المقصود كان بيت جيرانهم والذي كان مطبعة او بيت حزبي شيوعي، وكانوا يبحثون عن احد الهاربين بعد اعتقال رجل وامرأة في ذلك البيت. وكانت احدى الادلة التي استعملها الحرس القومي لإدانة المعتقلين هي كتاب "الأم" لمكسيم غوركي والذي كان في البيت الحزبي، والذي اعتبره المجرمون مستمسكا دامغا لشيوعية الساكنين في البيت. وهكذا نًكب العراق بهذا الفكر الاسود.

استشهد أبو العيس مع رفاقه  سلام عادل وحسن عوينه في معتقل قصر النهاية على أيدي بعثيي 63 لينضموا الى الالاف من شموع العراق الذين لايزالون يضيئون الطريق من اجل عراق افضل.

والشهيد المحامي محمد حسين ابو العيس من مواليد بغداد عام 1916 واول رئيس تحرير لجريدة اتحاد الشعب، وكان اول من استطاع الهروب من سجن نقرة السلمان في العهد الملكي.

وخلد شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري الشهيد ابو العيس وشهداء الحزب الذين استشهدوا في شباط الاسود بهذه الابيات من قصيدته الرائعة : سلاماً ... إلى أطياف الشهداء الخالدين

سلاماً وما أنا راع ٍ ذماماً إذا لم اسلم عليكم لماما

سلاماً ضريحٌ يشيع السلاما، يعانق فيه "جمالٌ" "سلاما" (1)

سلاماً ، أحبة شعب نيامى ، إلى يوم يؤذن شعب قياما.

حماة الحمى والليالي تعودُ، وخلف الشتاء ربيع جديدُ

سيورق غصنٌ، ويخضر عودُ، ويستنهض الجيل منكم عميد

سيقدمه "رائدٌ" إذ يرود، ويخلف فيها اباه "سعيدُ" (2)

و"سافرة" ستربِّ النسورا، توفي أبا "العيس" فيهم نذورا (3)

*****************

1- وجمـــال و سلاما هما الشهيدان: جمال الحيدري وسلام عادل .

2- ورائــد وسعيد هما نجلا الشهيدين عبد الرحيم شريف وعبد الجبار وهبي.

3- وسافرة ابو العيس هي سافرة جميل حافظ، زوجة الشهيد محمد حسين ابو العيس.

فطوبى للشهداء الذين اناروا الطريق

-----------------------

كتب هذا المقال قبل سنوات، ولكن الالم والذكريات تبقى حية

  كتب بتأريخ :  الإثنين 08-02-2021     عدد القراء :  2958       عدد التعليقات : 0