المراجعة النقدية وتقويم الاحداث بنوايا صادقة وتدقيق عميق امرا ليس يسيرا ، كما ان تقييم العمل السياسي في مرحلة مضت لا يمكن ان يتم وفق معيار الحاضر ، فلكل مرحلة ظروفها ولكل حادث أسبابه ، غير ان مراجعة الذات والنقد الموضوعي للسلبي والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها الانسان ، والاعتذار بأمانة وتجرد تتطلب شجاعة وثقة بالنفس ، وتنم ثقافة الاعتذار عن سمو رغم ان الذي مضى سيسجله التاريخ سلبا او إيجابا ،
وإدراك الخطأ ينم عن حس عالي ووعي وشعور بالمسؤولية وشجاعة، وثمة أخطاء تترك نتائج سلبية على جمع من الناس، وثمة أخطاء يرتكبها المرء بحسن نية دون ان يحسب عواقبها، وثمة مواقف تجر الى أخطاء مركبة ومتراكمة تترك أثار سيئة في نفوس الآخرين، وما يرفع تلك الآثار ليس جلد الذات لنفس المخطئ، بل في شجاعة الموقف بالاعتذار عن الخطأ والتراجع عنه وتحمل المسؤولية. ومن كبائر الأخطاء ما يصر عليه بعض مع معرفته بحجم ما ارتكبه من أخطاء، وما يبرره وما يدافع عنه بالرغم من تلك النتائج السيئة والسلبية التي خلفها الخطأ المرتكب ولعل صورة الأخطاء التي ارتكبها الحكام في العراق تظهر صورة واضحة وجلية تبين تلك الأخطاء المرتكبة، والتي يتحمل فيها الحاكم او المسؤول وزر تلك الأخطاء، وتبريرهم ودفاعهم عن مواقفهم، بل وفي أحيان كثيرة اعتبار تلك الأخطاء والمواقف من اجل مصلحة الشعب والوطن والمستقبل، ما يؤكد الإصرار على المضي قدما في الموقف الخاطئ، في حين أنها جرت ويلات وماسي وتركت ندوبا وجروحا غائرة ليس في مساحة العراق وتاريخه، بل تركت أثارها على الشخصية العراقية وعلى المستقبل العراقي، فلم نلمس ولم نسمع حاكما أو مسؤولا يتقدم بالاعتذار من الشعب، ولم يجرؤ أحد على أن ينتقد نفسه أو يبين الأخطاء التي وقع فيها ولو بشكل غير مباشر أو دون قصد، فالحاكم في بلادنا معصوم من الأخطاء كما يعتقد واهما، والحاكم في بلادنا لا يمكن أن يرتكب سيئة أو خللا، والحاكم في بلادنا لا يستمع للنقد ولا يقبل الاستشارة والنصيحة، وهو بهذا الحال يرتكب معصيتين، إصراره على الخطأ وعناده غير المقبول غير ان ما سجله السيد (محسن الشيخ راضي) في الجزء الأول من مذكراته ((كنت بعثيا – من ذروة النضال الى دنو القطعية)) يسجل موقفا يعبر عن مساهمته فعليا في تشخيص احداث مهمة مرت على العراق ، كان فيها شاهدا وفاعلا ليساهم في توثيق بعض الاحداث التي لابد من تصويبها بشكل صادق ، ومع ان مذكراته واعتذاره جاء متأخرا الا ان كلمته التي يختتم بها الجزء الأول من كتابه تعبر بشكل عميق عن خلاصة التجربة المريرة التي مرت على العراق وكان محسن الشيخ راضي احد رموزها واعترافه بشكل صريح بالإساءة التي اقترفها مع رفاقه في شباط ١٩٦٣ بحق الشعب العراقي حيث يذكر (اعترف باني قد اساءت بحق العراق والشعب العراقي الكريم ، ولعل نوايانا الحسنة لن تنفع ولاينفع معها الاعتذار لأننا ادخلنا العراق في دوامات من الفوضى والضياع ، واهدرنا مستقبل أجيال من شبابه ، وبصدر رحب اتقبل كل نقد او ادانة توجه لي فانا ادين نفسي قبل ان ادان ، واطلب العفو من كل مواطن عراقي يعتقد بانني كنت وراء اضطهاده او سجنه او حتى إساءة صدرت مني بحقه ، والله على ما أقول شهيد).
فترة التطاحن السياسي منذ قيام ثورة ١٤ تموز ٥٨ مرورا بانقلاب شباط ٦٣ وانقلاب تشرين الأول ٦٣ تضمنت احداث مهمة في التاريخ العراقي الحديث ، تداخلت الاحداث واختلطت المواقف وبرزت ظاهرة تلك الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها القوى السياسية جميعها في العراق ، وبدت الجراح تكبر والقطيعة تتوضح لتتحول الى عداء شرس بين قوى سياسية جميعها وضعت شعاراتها وأهدافها جانبا ، ونازلت بعضها بعض في حلبة القتال والمواجهة ، واختلفت القصص والروايات في عمليات الإدانة والتجريم والبراءة ، وكنا بحاجة ماسة لشهادة الشهود الذين كانوا جزء من الحدث او الأقرب اليه من كل الأطراف ، وسبق ان كتب بعض قيادات حزب البعث السابقين مذكراتهم المتضمنة نقدهم للمرحلة وجلد الذات فيها ، أمثال هاني الفكيكي في (اوكار الهزيمة – تجربتي في حزب البعث العراقي) و طالب شبيب في (عراق ٨ شباط ٦٣ من حوار المفاهيم الى حوار الدم) بواسطة الراحل علي كريم سعيد ومذكرات خالد علي الصالح. السرد الذي قدمه صاحب المذكرات في بداية الكتاب حول الولادة والنشأة الأولى والانتماء للبعث ، ومن ثم الدراسة في سوريا ثم العودة الى العراق ، مرورا بالتحالف مع الاخوان المسلمين حيث يقرر البعث إيجاد حليف للعمل ضد الحزب الشيوعي تحت شعار (يا أعداء الشيوعية اتحدوا). يستعرض السيد محسن الشيخ راضي الفترة العصيبة والمرتبكة والمرارة التي تحملها في العام ١٩٥٩ ، وما تعرض له من اضطهاد وقسوة وملاحقة وضياع لمستقبله الدراسي بسبب تمسكه بعقيدته وافكاره ، والمواجهات العنيفة التي عاشها بسبب اختلافه الفكري ، بالإضافة الى تداعيات محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم على الحزب. في الصفحة ١٠١ يستشف ان لديه شكوك واشكاليات حول نزاهة ووطنية طالب شبيب تثير الريبة في نفسه لكنه بحاجة ماسة لدليل قاطع او وثيقة تؤيد هذه الشكوك ، مع ان طالب شبيب عضو في القيادة القطرية لحزب البعث ، وطيلة عمل السيد محسن في القيادة فانه كان يعارض بشدة التفاف الضباط على الحزب ويشكك في نواياهم ، غير ان الامر جرى عكس معارضته حيث تم اسقاط نظام قاسم بواسطة العسكريين من البعثيين والقوميين وكانوا العمود الأساس في انقلاب البعث في العام ٦٣ وفي العام ٦٨.