الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
المافيات التي تحكم المدن

مقاطعة ( بالميرو ) تقع جنوب ايطاليا ، وتنتهي بمدينة جميلة أسمها ( سيراكوزا ) دخلت التاريخ من خلال تشكيلات أسرية تمارس الجريمة وتتحدى القانون ، وتنشط في مجال تسويق وتهريب المخدرات والسلاح ، والجريمة المنظمة ، وممارسة العنف والعدوان والابتزاز ، تحت شعار الحرص على قيم الدين والمجتمع .

من بين أكبر تلك البيوت كانت عائلة ( تشيللو ) التي عرفتها المدينة بشراسة رجالها وانحطاط نسائها ، وعدم وجود وازع ديني واجتماعي يردعها أو يحد من نشاطها ، وبدأت نشاطها بحماية بيوت الدعارة وتوزيع المخدرات ، وواجهت قوات الشرطة مرات عديدة ، وبدأت هذه العائلة تلفت الأنظار ، وتمكنت من توحيد نشاط عدد من العائلات التي اتجهت نحو نفس توجهات عائلة ( تشيللو ) ، فتم تشكيل تحالف أجرامي لتلك العوائل تحت أسم ( كوزا نوسترا ) ، وبنتيجة اجتماع بين رؤوس تلك العوائل تم انتخاب هيئة تمثل كل العوائل وأنيطت رئاستها بال تشيللو ، ولقي هذا التحالف ترحيبا ومساندة من الكنيسة ، حيث كان أفراد تلك العوائل حريصين على حضور قداس يوم الأحد والاستماع إلى مواعظ الكاهن وهو يشيد برجالات تلك العصابات ودورها في حماية الشرف وحرص أكيد على قيم الدين والطقوس التي تمارسها وتدعو لها الكنيسة ، ومحاربة الإلحاد والابتعاد عن الالتزام بتعاليم رجال الدين ، وتشيد أيضا بالتبرعات التي تمنحها الكوزا نوسترا ، مع أن الكنيسة تعرف إن هذه التبرعات نتاج جرائم وأعمال العنف والاغتيالات التي يقوم بها أفرادها المتورطين بتوزيع ونشر المخدرات بين أفراد كل مدن جنوب ايطاليا .

الشرطة واجهت تلك العصابات إلا أنها لم تتمكن من السيطرة على الأمن وتطبيق القانون ، فتم شراء ذمم قياداتها ، وبالتدريج أصبح قادتها أعضاء في التحالف ، وخلال حقبة زمنية قصيرة تمكنت المنظمة من تكوين قوة اقتصادية تتحكم بالزراعة والتسويق والإنتاج ، وتمكنت أيضا التحكم بالسياسة وتنصيب من تراه حاكما او نائبا في البرلمان ممثلا عن مدن جنوب ايطاليا خلال الانتخابات التي تديرها من خلال اجتماعاتها الدورية ، وحين تصدى بعض القضاة لتلك العصابات تم الاتفاق على تصفية العناصر القضائية المواجهة لهم ومن الذين لم يتم شراء ضمائرهم وذممهم فصار الأمر أن يتم تصفيتهم جسديا أو تلطيخ سمعتهم واتهامهم بقضايا الشرف والسمعة ليتم عزلها ، حتى صارت المؤسسة القضائية في جنوب ايطاليا تابعا ذليلا لقيادة التنظيم أسوة بقيادات الشرطة والأمن .

بقيت قيادة هذا التنظيم تمثل الطبقة العليا المترفعة أن تكون من طبقات المجتمع الدنيا في جميع تصرفاتها ، في حين كانت القاعدة من الطبقات المسحوقة والمرعوبة التي كانت تخشى التنظيم وتحمي نفسها ومصالحها بأن تكون تحت تصرف القيادة ورهن الإشارة في أي فعل أو أمر يتم تنفيذه ، وبهذه القاعدة تم تشكيل ميلشيات مسلحة عسكرية مدججة بكل أنواع الأسلحة ( إلا أنها مستترة بلباس مدني ) ، وهذا التنظيم العسكري صارم في تنفيذ الأوامر والإخلاص الى القيادة تحكمه قواعد غاية في الصرامة والقسوة منها ( قاعدة الصمت وقاعدة الولاء وخدمة العوائل التي تقود الكوزا نوسترا ) ، قاعدة الصمت تعني التكتم على كل معلومة تكشف أي حقيقة ، ولا يخبر اقرب الناس إليه بما شاهد او سمع ، وبعكس ذلك فحياة الشخص وعائلته تتعرض للقتل والتصفية .

ومن بين اغرب الشعارات التي كانت تتمسك بها المنظمة هو المحافظة على الشرف وقيم الدين ، مع إن شبكات الدعارة والرقيق الأبيض من بين أهم أعمال المنظمة وتشكل مصدرا مهما من مصادر دخلها ،

تقوم تلك التنظيمات على الرأس فلا تملك هيئات او قيادات او مجالس في الأسرة الواحدة ، وبالقضاء على الرأس تنتهي تلك الأسرة أو يتضاءل دورها ضمن التنظيم ، ولهذا فإنها حين تجمعت في تنظيم واحد كانت تختار من يمثلها في البرلمان او في مؤسسات الدولة التي تتحكم بها ، ولأتساع عمل تلك العصابات وانكشاف سيطرتها على الشارع ، وتعاونها مع عصابات الجريمة المنظمة ، وتغلغلها في الوسط السياسي والاقتصادي ، واجهت هجمات ومواجهات عنيفة من قوى الأمن والشرطة التي لم تقع تحت سيطرتها بنتيجة الرفض المتكرر للناس لأفعالها وغياب القانون والأمن ، ولأتساع وكثرة الشكاوى التي يقدمها بعض الشجعان والهاربين ، ولكثرة ما يقع من جرائم يكون فيها الفاعل ( مجهول ) ، ويتم غلق التحقيق وحفظ أوراق القضية ، وأصبحت تلك التنظيمات تشكل دولة قائمة داخل بنية الدولة الإيطالية .

تمكنت العصابات المنظمة أن تطور نفسها بولادة جيل من المتعلمين والمكتسبين للمهارات التي كان يفتقدها الآباء ، فتمت السيطرة على نوادي القمار وصالات الرقص والبارات ودور العبادة ، وتمت السيطرة على عمليات غسيل الأموال وتهريب البشر والأسلحة وممارسة الربا والسيطرة على إنتاج وتوزيع وتهريب المخدرات وعمليات سرقة السيارات وتفكيكها ، وتشكلت لها أذرع وهيئات مساعدة خارج ايطاليا للقيام بادوار محددة وتسهيل مهماتها في الوساطة والترويج والحماية ، .

وبقيت قيادات تلك العوائل تتقاسم الأرباح والإيرادات التي بدأت تتضخم ، كما اتسع نشاطها الاقتصادي الزراعي والصناعي لتتحكم في الاقتصاد الوطني ، وتوسع نشاطها الإجرامي في عمليات التصفية والاغتيالات ، حتى صارت لها ميزانيات تعادل ميزانيات دول قائمة ، ما جعل الدولة الاقتصادية تفكر بوسائل تحد من نشاطها او تقضي عليها ، إلا أن تأثيرها بقي قويا مع مساندة دائمة من رجال الدين المنتفعين من نشاطها غير الشرعي .

وما يلفت النظر أيضا أن الزعامة في كل أسرة وراثية ، ولا يسمح للعضو فيها ان يطمح بان يكون زعيما في قيادة العائلات العليا او عضوا قياديا فيها حيث يبقى جنديا يتلقى الأوامر ويتقيد بالتنفيذ والتزام الصمت وعدم التعامل مع السلطات الأمنية والتحقيقية مباشرة ، والولاء الأعمى والمطلق لزعيم العصابة ورجلها الأول بالرغم من ان العديد منهم لا يمتلك التعليم العالي ولا الدرجة الاجتماعية أو الدينية التي تؤهله لكل هذا .

بقيت تلك الميليشيات والعصابات المنظمة قوية رغم كل الضربات والمواجهات التي تلقتها ، غير أنها ضعفت بشكل لافت حين حدث الانقسام بين قياداتها ، وهي حالة كان لابد أن تقع حين تختلف القيادات الإجرامية على العوائد والمنافع ، فتنكشف عوراتها وحقيقتها ، وتتقاتل فيما بينها لتقوم حرب عصابات تضعف من قدراتها وتشل الإمكانيات لتصفي بعضها بعض ، وبدأت في الانهيار والضعف حين قامت السلطة بسحب السلاح من أفرادها ، وتعاونت الأجهزة المنية لمحاربة وسائلها الإجرامية بأساليب تحد من عمليات تهريب الأسلحة والمخدرات والبشر ، فقيدت نشاطها وأضعفت مصادرها المالية ووسائلها الإجرامية ، كما أن تبلور الوعي والشعور الوطني والإنساني لدى الشعب شكل قوة مواجهة متماسكة تعاونت فيما بينها للقضاء على تلك العصابات التي تتبرقع تحت غطاء حماية الدين وقيم المجتمع وهي أول من يعمل على خرق تلك القواعد .

تضم مدينة ( سيراكوزا ) اليوم المعهد الجنائي الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة بعد ان تخلصت من مخالب المليشيات والعصابات التي كانت تسيطر عليها .

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 01-12-2021     عدد القراء :  1716       عدد التعليقات : 0