الدستور العراقي على علاته، يقر، بأن "الشعب مصدر السلطات"، والمشرعون الطائفيون يتبجحون بأنهم ملتزمون بمبادئه دون مواربة!!. لكن إذا كان الشعب حقا، مصدر السلطات، ونعني "التشريعية والتنفيذية" ولا نستثني "القضائية"، فلماذا لم يع هؤلاء المشرعون ضجر الشعب على مدى عشرين عاما من سوء الأوضاع وتراكمها على جميع المساحات والصعد؟. وإن كان الدستور مجموعة أحكام في العرف المدني، الفيصل، لإحلال السلم الأهلي وإعلاء شأن العدل والمساواة وضمان حقوق الناس مهما اختلفت انتماءاتهم ومللهم. فمن أعطى أصحاب السلطتين (التشريعية والتنفيذية) حق شرعنة استثناءات دستورية لخدمة مصالحهم، بأي حال لا تتناسب مع المصالح العامة للمواطنين، خذ مثلا: مسألة الرواتب الضخمة التي يتقاضاها منتسبو السلطات الثلاث وما يحيطها من دوائر وأحزاب وموظفين وهميين، فضلا عن تعدد وتنوع الامتيازات والمكافآت، أموال وعقارات وقصور وسيارات وحمايات إلخ. فيما يعاني عامة الشعب من ردع وقهر وجوع وعراء وبطالة وأمراض لا طائل منها. ولأن الدستور مليء بالتناقضات والكثير من مواده قابلة للتأويل والتجيير، فسهلا على مافيات السياسية وأحزابها المتسلطة الالتفاف على القوانين الدستورية الملتبسة بما يخدم مصالحها الطائفية والحزبية. الخطير، أن هذه الطبقة الساقطة سياسيا وأخلاقيا قد جعلت من ممارساتها اللاقانونية أمرا طبيعيا للاستئثار بالسلطة دون منازع.
مؤخرا رفع الستار عن عرض الفصل الجديد من مشهد دراما العراق وسط هرج ومرج مثير للغاية... إذ تنصلت أحزاب الإطار التنسيقي عن اتفاقها مع الحزب الديمقراطي الكردستاني (مسعود البرزاني) دون أن يعرف أحد مضامين ذلك الاتفاق وما تمت مقايضته لإتمام صفقة تشكيل (حكومة السوداني) بعد انسحاب الصدر عن المشهد السياسي. وهناك اتفاق آخر قد تم بين رئيس الوزراء محمد السوداني والكرد. أدى كلا الاتفاقين إلى تداعيات أنتجت تأجيل المفاوضات بشأن مشروع قانون الموازنة العراقية لعام 2023 وسط خلافات شديدة بين العديد من الأطراف. وكان نائب رئيس البرلمان قد قام بتعليق عمل اللجنة المالية بالهيئة التشريعية "البرلمان" بسبب مخالفات قانونية وغموض في مضامين الاتفاقات المشتركة بين كل من "الإطار التنسيقي" و "مسعود برزاني" من جهة و (السوداني الحكومة الفيدرالية العراقية) و (برزاني حكومة إقليم كردستان العراق شبه المستقل) من جهة ثانية. سببت حدوث خلافات عميقة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين (البارتي والاتحاد) الحاكمين في إقليم كردستان العراق.
الجدير بالذكر أن حكومة (السوداني) الاتحادية كانت قد أرسلت في منتصف مارس آذار مشروع ميزانية ثلاث سنوات إلى البرلمان، تشكل مؤشرا بأن الحكومة مستمرة لثلاث سنوات دون قيام انتخابات مبكرة في هذا العام. وقامت في أوائل أبريل/ نيسان بتوقيع اتفاقية مع حكومة إقليم كردستان بشأن استئناف صادرات النفط إلى تركيا، ومشروع قانون الميزانية العراقية، ومناقشات جديدة بشأن قانون نفط وغاز اتحادي جديد.
فإذا كان الدستور العراقي، يؤكد، بأن الشعب مصدر السلطات، أفلا من حق المواطنين معرفة ما يدور في الدهاليز من أمور سياسية واتفاقات وعقود تستنزف الدولة وتعرض مصالح الأمة للخطر. إذ لا يسمح الدستور لأي جهة حزبوية أو مجتمعية التجاوز على مسؤوليات الحكومة المركزية الحصرية، كما لا يسمح لأي طرف أو حزب مصادرة الدولة في إطار مفهوم الدولة كمؤسسة لها اعتباراتها القانونية. فما الذي استوجب عدم كشف مضامين اتفاقات في غاية الخطورة في شأن عام (من اختصاص الدولة وحكومتها المركزية حصرا)؟. بل لماذا سمحت المؤسسة التشريعية والقضائية لأحزاب شعبوية لا رقابة أو سلطة عليها عقد اتفاقات فيما بينها، تمس أمن الدولة ومصالحها العليا بمعزل عن الشعب وعلمه؟. في الدولة الديمقراطية المدنية التي يسودها القانون والرقابة والمحاسبة، لا يستطيع أي مسؤول مهما كان منصبه وتحت أي ذريعة كانت، التجاوز على المبادئ والأساسيات المتعلقة "باستقلال الدولة وسيادتها" ومنها استقرارها المجتمعي، السياسي والاقتصادي، وان حدث سيعتبر خرقا اعتباريا لمؤسسات الدولة وخيانة عظمى لشأن عام يعاقب عليه بلا رحمة ولا يقبل المساومة أمام القانون!.
أما في بلد كالعراق يعاني من ازدواجية المعايير وأوضاع سياسية معقدة ونظام حكم طائفي راديكالي، ودستور مركب سلب الدولة ومؤسساتها كل أساسياتها الشرعية والقانونية والإدارية. اشتد الصراع بين طرفين متناقضين في المواقف والممارسات والمناهج والرؤى: بين قوى اللادولة "طبقة شللية طائفية شوفينية"، وسلطة الدولة الضعيفة، حتى أصبح مفتوحا على كل الاحتمالات. فالأولى تقوض الدولة بكل ما تملكه من قوة، فيما الثانية مسحوقة لا تمتلك وسائل الردع الحرفية والسياسية والمؤسساتية بشكل جعل هيبة الدولة في أتون المجهول وعرضة للجدل الجماهيري.
إن تصاعد الصراع من جديد بين الأطراف السياسية بسبب أزمة تمرير قانون الموازنة الأخير، من شأنه أن يفضي إلى مخاطر حقيقية على الدولة والمجتمع. فالموازنة يشوبها الكثير من الغموض والتستر القانوني والدستوري، ومضامين الاتفاقين مجهولة. فيما الأموال المالية التي يفترض أن تصرف للمحافظات والوزارات لتنفيذ مشاريعها، توزع كـ (هبات) على الأحزاب التي تتقلد وزارات عبر لجانها الاقتصادية وفقا لمبدأ المحاصصة التوافقي. لكن على ما يبدو أن قادة "الإطار" متخوفون من انقلاب السوداني عليهم وضياع المرجو إن لم يعجلوا بأي ثمن إقرار الموازنة التي انكشفت أسرارها قبل إقرارها. فعلى سبيل المثال: في الوقت الذي تفرض الحكومة رسوما خانقة على العراقيين، يحصد الكرد 20 % من الموازنة لثلاث محافظات، وهو ما يعادل حصة 6 محافظات جنوب العراق. فيما تحصل الأمانة العامة لمجلس الوزراء على 920 مليار دينار عام 2023 في حين كانت 186 مليار دينار عام 2021، مع أن عمل الأمانة لا يتعدى متابعة قرارات مجلس الوزراء، ولا يعلم أحد لماذا هذه المبالغ الطائلة؟. أما حصة وزارة الخارجية من الميزانية عام 2021 (363 مليار دينار)، زادت عام 2023 بمعدل مرتين ونصف (837 مليار دينار). ووفقا لما تسرب مؤخرا، فإن مخصصات مكتب رئيس الوزراء قد ارتفع بمعدل أكثر من 15 ضعفا، من 76 مليار دينار عام 2021 إلى 229 مليار عام 2023، زائد 990 مليار دينار لمكاتب تابعة لرئيس الوزراء. علما من أن 85 % من الواردات المالية السنوية للدولة تذهب لجيوب الأحزاب الحاكمة و15 % فقط يذهب لخزانة الدولة العراقية،، ومن هالمال حمل جمال!!.