الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
موسمُ الهجرة الى دولارات رأس السنة

أذكرُ الراحل (أحمد زويل)، العربي الوحيد حائز نوبل الكيمياء، في سياق لقاء تلفازي معه. سألته مقدّمة اللقاء الحواري (كيف إستقبلك الامريكان بعد عودتك بالجائزة النوبلية؟) فأجاب أنّ مسؤولي الضرائب هم أوّل من تعاملوا معه وذكّروه وهو بعدُ في المطار بأنّ جائزة نوبل ليست معفاة من الضريبة. عقّبت المقدّمة:

أعرفُ أنّ جائزة نوبل، وكما هو مذكور في لوائح الجائزة، تمنح مبلغها كاملاً للفائز (أو الفائزين بالتشارك) من غير ضرائب. أجابها زويل: هذا في السويد؛ لكنْ في أمريكا الحالُ مختلف. يتوجّب عليك دفع الضريبة حتى عن جائزة نوبل، وقد دفعتُ نسبة 45‌% من مبلغ الجائزة ضريبة عنها.

سيشعر كثيرون منّا برعشة في أجسادهم، وربما لن يصدّقوا الكلام. كيف يحصل هذا الامر؟ أمريكا التي نعرف عنها أنها سخية في الانفاق على البحث العلمي والتقني تقتطع نسبة 45‌% من جائزة نوبل!! أهي في حاجة لهذا المال وهي مركز الرأسمالية العالمية في نسختها النيوليبرالية؟ نعم. أمريكا تفعل هذا. إنّه القانون، ولا أحد يستطيع تجاوزه أو الالتفاف عليه.

تجسّد أمامي مثال الراحل زويل وحكايته مع ضريبة جائزته النوبلية وأنا أقرأ ذلك الكم من ألوف الدولارات التي تقاضاها كبارُ المطربين العرب في إحتفاليات ليلة رأس السنة 2024: عمرو دياب (650 ألفاً)، شيرين عبد الوهاب (500 ألف)، تامر حسني (350 ألفاً)، ثمّ يتسلسل الباقون ليبلغ أقلّهم أجراً مابين 100 الف الى 70 الف دولار.

كثيرةٌ هي الاسئلة التي يمكن تُسأل: هل دفع هؤلاء ضريبة عن مدخولاتهم لليلة واحدة؟ وإذا دفعوا الضريبة هل ستذهب الضريبة للصالح العام؟

لايعنيني كثيراً أن يحصل هؤلاء على مليون دولار أو 100 مليون دولار أو حتى مليار دولار في حفلة واحدة؛ لكنّ مايعنيني هنا من دفعوا الاموال ليتخموا بها مَنْ جيوبُهُ متخمة بالمال أصلاً. لماذا يفعلون هذا؟ سيذهبون لحفلة يغني فيها أحد هؤلاء أغاني مكرورة، وربما – بل الاغلب – أنه سيلجأ للتسجيلات الجاهزة ويكتفي بتحريك شفتيه والنطنطة على المسرح ليبرهن على لياقته البدنية الخالدة ويبتعد عن مثال (الآلهة الخشبية) الجامدة. ماذا بعد هذا؟ هل نال الحاضرون بركات الآلهة وتجدّدت حياتهم بسماع هؤلاء المغنين؟

هي لعبة استعراض ومصالح مشتبكة تغذيها وسائل الاعلان المتوحّشة. مايبدو للناس نبشاً في الحياة الشخصية لبعض هؤلاء (أسئلة مثل: هل هو مدمن؟ مطلّق؟ هل تفوّه بكلام فاحش؟ صوره الجريئة؟ مساجلاته الفضائحية على مواقع التواصل الاجتماعي.... إلخ) إنما هو بعض لزوم الترويج والنفخ في قربة النجومية السخيفة. إذا كانت فلانة مدمنة؛ فلماذا إذن تذهب لحفلتها وتدفع ثمناً باهظاً لبطاقتها؟ هل تريد الترويج للإدمان؟ ماهذا الذي يحصل؟ إنها لعبة يراد منها الاسترزاق وكسب تعاطف المستغفلين بنواياهم الطيبة أو من يستغفلون أنفسهم عن قصد مُسبّق.

سيقولون لنا (وبخاصة منظمو الحفلات والمتكسّبون منها وهم كثرٌ): ألسنا في سوق حرّة؟ هذه هي بعضُ قوانين السوق الحرّة. ندعُ الجميع يفعل مايشاء، وفي النهاية كلٌّ امريءٍ ورزقُهُ. صاروا يتحدّثون بلغة الارزاق خوف التحاسد والمزاحمة. تشتغل ماكناتهم الاعلامية الصاخبة لتستهدف جيل الشباب والشابات. هم موقنون في نهاية المطاف أنّ هؤلاء الشباب من الجنسين قد يقتطعون من لقمة عوائلهم ليحضروا حفلات باهظة التكاليف لمجرّد أن يتطلّعوا إلى نجمهم المعبود ولو من بعيد. سينامون هانئين بعدها وكأنّهم حققوا إنجازات عمرهم العظيمة. بهذه اللعبة الحقيرة أحادية الاتجاه صار المال يتحرّك من جيوب العوائل ويصبُّ في خزائن شبكة زبائنية واسعة يظهر (المطربون والمطربات) في واجهتها؛ لكنّ جيشاً جراراً من المتكسبين ينتمي لها ويتعيّشُ منها عسلاً مصفّى. أما من يبعثر المال يميناً وشمالاً بغير (وجع قلب) لأنّه يسيل لديه أنهاراً فلا شأن لنا به لأنّه ليس أكثر من ناهب أو (سارق) في أحسن الاحوال.

سيحاجج كثيرون: مثل هذه الظواهر موجودة في الغرب، ويحصل منها نجوم الغناء على أضعاف مضاعفة مما يحصل المغنون العرب؛ فلماذا نتحدث عن العرب دون سواهم؟ الجواب: التكسّبُ الفاحش من الغناء في الغرب ليس البوابة الوحيدة للثراء الذي يكفل لهم حياة مترفة. عندما يتطلّعُ الشاب العربي حوله ويرى أنّ أحد هؤلاء (النجوم) يمكن أن يحصل في ليلة واحدة على مايحصل عليه والده المهندس أو المدرّس في ثلاثين سنة أو خمسين سنة أو قد لايحصل عليه أبداً طيلة حياته؛ فكيف نتوقّعُ نهضة علمية وتقنية عندما لايجد الشاب المجتهد المبتكر جهة تمول مشروعه العلمي بعد أعوام من الجهد والتجارب والانفاق وتغلق بوجهه الابواب فتنكسر روحه ويصمت مخذولا أو يهاجر ليعمل غاسل صحون او منظف شوارع في بلد غريب.... !! المال هو المحرّك الاساس في كلّ الفعاليات البشرية، ومن الخطل خداع أنفسنا في هذا الشأن.

كم أتمنى لو أنّ شبحاً مثل (كاسبر) طاف في غرفة نوم أحد هؤلاء المطربين والمطربات عقب ليلة مجهدة في حفلة رأس السنة، ماذا تتوقّعون أن يسمع؟ أخشى أنه سيسمعُ كلاماً كهذا: كلي يانفسي واشربي وافرحي بهذا المال الوفير. كم هو يسيرٌ الحصول على المال من هؤلاء الغشماء اللاهثين وراء النجوم. ياربُّ أدِمْها علينا نعمة لاتنقطع.

سينام هؤلاء هانئين وهم يحلمون بكسر حاجز المليون دولار في حفلة رأس السنة القادمة.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 22-01-2024     عدد القراء :  1245       عدد التعليقات : 0