الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
النفط الذي جَعَلَنا نعبث

أحبُّ الوثائقيات كثيراً، وقلّما يفوت يوم من غير أن أشاهد وثائقياً. ليس هذا الحب مصداقاً لعبارة (الصورة أفضل من الف كلمة). قراءةُ كتاب رصين لايمكن أن تستبدل بألف وثائقي؛ لكنّ المرء لايستطيع أبداً أن يقرأ كلّ مايشتهي، وسيكون إجراءً مناسباً أن يلجأ إلى المقاربات التعويضية المتاحة. أظنّ أنّ الوثائقيات المصنوعة بحرفية عالية هي المقاربة الافضل من سواها.

إعتدتُ أن أشاهد وثائقيات الجزيرة والقناة الالمانية DW، ثمّ إنتبهتُ أخيراً إلى وثائقيات الشرق. تابعتُ قبل بضعة أيام وثائقياً في فضائية (الشرق) عن هنري فورد وسيارته المثيرة (فورد موديل T) التي ظلّت ملكة السيارات الامريكية منذ عام 1914 حتى عام 1927، وصُنِع منها مايقاربُ الخمسة عشر مليوناً. رقمٌ يثير فضولنا من غير شك. إنتبهتُ إلى أنّ فورد ظلّ نحيفاً في هندسته البدنية: بطنه ضامرة يكاد البنطلون ينزلق عنها؛ لكنّه ظلّ نشيطاً طوال حياته. رأيته في الوثائقي وهو يقود جراراً زراعياً بخبرة مزارع عشق الارض والفلاحة. ظلّ فورد طوال حياته يعشق العادات المتقشّفة البسيطة، ولم يُعْرف عنه المجون والعادات البطرة. هناك خفايا كثيرة لايعرفها الناس عنه، منها مثلاً أنه كان يمنح العامل في مصانعه (خمس دولارات لكلّ يوم عمل) وهو أجر كبير بمقاييس عشرينيات القرن الماضي؛ ولهذا سمّي Mr. 5 dollars a day، كما مكّن عامليه من إقتناء أولى وجبات سيارة فورد لقاء قسط شهري مقداره خمس دولارات (أي لقاء يوم عمل واحد فحسب كل شهر). كان العامل يأتي للمصنع وهو يقود سيارة أنتجها هذا المصنع!!. لست أروّجُ هنا لفورد أو أي نموذج إقتصادي يتبنّاه. بل اروي وقائع مثبّتة وموثّقة.

النظير السيئ لهنري فورد يمثّله جون روكفلر. قطب الصناعة النفطية الامريكية. كان شخصية مكروهة من قبل الامريكان أنفسهم. لجأ لأحابيل التآمر والخسّة والمناورات اللاأخلاقية من أجل السيطرة على الصناعة النفطية وكلّ الملحقات المعضّدة لها (سكك حديد، موانئ، أنابيب نقل،،،، إلخ). كان بخيلاً مقتّراً مع عامليه، وهو الذي أنشأ أولى الشركات النفطية الاحتكارية الامريكية التي تفرّعت عنها الشركات اللاحقة. يمكن وصف روكفلر ببساطة بأنّه النموذج المضخّم لدانيال داي لويس في فلم There Will Be Blood.

تساءلتُ: ماالذي يميّزُ فورد عن روكفلر؟ كلاهما يتبعان النموذج الرأسمالي ويبتغيان الربح، وقد حقّقا أرباحاً كثيرة. لاشكّ في هذا. لكن ليس كلّ من يحقق الربح يجب أن يكون بالضرورة مكروهاً من الجميع. تستطيع أن تربح وتفيد الناس في الوقت ذاته. هذه ليست إستحالة إقتصادية؛ بل يمكنك أن تربح أكثر عندما تفيدُ مجموعات أكبر من البشر.

التحليل التاريخي الدقيق سيقودنا إلى هذه الحقيقة: كلّ من تعامل مع أصول الثروة باعتبارها موجودات طبيعية إنتهى كائناً عدوانياً متغطرساً واستغلالياً يفهم الحياة بأنها لعبة صفرية لامجال فيها لرابحين سوى لطرف واحد فحسب.يُصدّقُ هذاعلى النفط والاصول الطبيعية للثروة (شاي، قهوة، كاكاو، توابل، مطاط، تبغ، قهوة، ذهب، فضة، حديد،،،،). كلّ أقطاب الشركات التي تعاملت مع هذه الثروات كانوا شخوصاً سيئين غليظي الطباع وذوي توجهات استعمارية. الشركات التي تعاملت مع هذه الثروات هي التي شجّعت ودعمت النزوعات الكولونيالية في عصرنا الحديث. حتى الرؤساء الامريكيون الذي ينتمون إلى عوائل ذات تاريخ في الصناعة النفطية كانوا أسوأ الرؤساء وأقلّهم كياسة وتحضّراً، ولم يكن تعليمهم الجامعي في جامعات النخبة الامريكية سوى غطاء مهلهل يعكس فقرهم الثقافي. لم نسمع عن رئيس أمريكي سليل عائلة عملت في صناعة السيارات أو الطائرات أو الصناعات الفضائية مثلاً.

الادب يؤكّدُ هذه الحقيقة. كثيرةٌ هي الروايات التي تناولت سرديات العبودية في مزارع القطن والتفاح ومناجم الحديد والفحم. حتى السردين صار موضوعاً روائياً لدى (جون شتاينبك) في روايته (شارع السردين المعلّب). هل قرأنا يوماً رواية تحكي عن عبودية قاتلة في مصنع سيارات أو مصنع صواريخ؟ ربما حصل الامر مع ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية؛ لكنّ تلك لحظة إستثنائية في عالم مأزوم لايصحّ القياس عليه. ألمانيا حينها وظّفت أسرى الحرب في مصانع صواريخها وأسلحتها ولم تستخدم مواطنيها.

لماذا يحصل الامر على هذا النحو؟ أظنّ أن السبب يكمن في أصول الثروة. عندما تتعامل مع ثروة طبيعية فستوجّهُ كلّ جهودك لوضع يدك على هذه الثروة قبل أن يختطفها أحد غيرك. مجانية الثروة (لكونها طبيعية) تغري المرء بالجشع والتغالب عليها قبل أن تنفد. النموذج الاقتصادي هنا هو إختطاف أكبر قدر من ثروة طبيعية ثابتة الاصول. أنت لن تصنع نفطاً في مختبراتك، ولن تخلق ذهباً أو فضة أو فلزات نادرة تحتاجها الصناعة الحديثة، ولو فعلت هذا فستفعله بأكلاف عالية غير مشجّعة. ربما اللؤلؤ الصناعي هو الاستثناء الأوحد؛ لكن يبقى اللؤلؤ الطبيعي مرغوباً أكثر من نظيره الصناعي.

صناعة السيارات (والطائرات والسفن،،،) مسألة أخرى. أنت هنا ستتعامل مع معضلات تقنية تحتاجُ لحلها إلى مهندسين وعلماء وتقنيين. ماذا ستفعل؟ ستلجأ إلى الجامعات لتزويدك بالحلول الناجعة. من هنا ستنشأ دورة عمل Business Cycle، وهذه الدورة ستفيد كلّ الاطراف: الشركة ستحسّنُ منتجاتها بعد حل المعضلات بطريقة مناسبة، والجامعات ستستفيد من الاموال التي ستصبُّ في خزائنها لقاء هذه الاستشارات التقنية. المال هنا يُخلقُ خلقاً بدلاً من أن يكون أصلاً طبيعياً ثابتاً يُغري بالتصارع؛ لذا لايحتاج أقطاب هذه الصناعات لأن يكونوا إستعماريين؛ بل بالعكس تماماً. هم في حاجة لعلاقات متوازنة محترمة مع كلّ شعوب الارض ليخلقوا أسواقاً جديدة لمنتجاتهم. السيارات الامريكية (فورد وشيفروليه) كانت تباعُ في العراق في ستينيات القرن الماضي بأسعار معقولة: تدفعُ قسطاً أولياً ثم يقسّط المبلغ الباقي على أقساط شهرية مريحة.

نفطنا العراقي جعلنا نهدرُ فرصاً ثمينة، جعلنا كائنات عبثية تهذر بالكلام من غير تحسبات للمستقبل. إستمع للفضائيات العراقية، ستشاهدُ أناساً متعصبين يتكلّمون عن إنتخاب فلان أو فلان وكأنه معضلة عالمية. يفعلون هذا لأنهم يعلمون أنّ حصيلة أموال النفط ستفي برواتب الناس. لكن هل سيستمرّ الحال على هذه الشاكلة؟ من أين لهم هذه الثقة؟ هم يتصرّفون على أساس اللحظة الراهنة: فلأعش اليوم ولأمتْ غداً. مالي والغد؟ مالي والأجيال المستقبلية؟ صرّح أحد كبار المسؤولين:نعم، نبيع نفطاً ونعيش. هذا هو نموذجنا الاقتصادي بعد عام 2003. لااشتراكية ولارأسمالية ولاوجع قلب.

قبل بضع سنوات حصل ثقب في الخزينة العراقية نتيجة هبوط آني في أسعار النفط. ماذا فعلت الحكومة؟ لجأت لأيسر الحلول وأسهلها: تلاعبت بسعر صرف الدينار العراقي، ونحن نعرف الكوارث المترتبة على هذا الإجراء.

فرح المصريون بملياري دولار إضافية ستأتيهم من حصيلة المرور في قناة السويس. نحن في العراق يمكننا أن نهدر هذين المليارين بأسرع من رمشة عين. إنه العبث النفطي، وهو عبث لن يستمرّ طويلاً.

لم نكتفِ بأن جعلنا النفط نقمة علينا وسلاحاً لإدامة التكاسل والخدر.صرنا كائنات عبثية تضيع الفرص وتخسر الزمن ولاتستمرئ سوى هذر الكلام. كلّ هذا العبث سندفع ثمنه لاحقاً؛ إن لم نكن نحن فأولادنا.

تخيلوا ماالذي سيقوله أحفادنا عنّا بعد خمسين سنة. سيكون كلاماً قاسياً؛ لكنه سيكون كلاماً نستحقه.

المستقبل الطيب لايصنعه أناسٌ عابثون قتلوا الصناعة والزراعة وكلّ ممكنات إدامة الحياة. أبناؤنا سيلعنوننا. هل فكّرتم في هذا الامر؟

  كتب بتأريخ :  الأحد 28-01-2024     عدد القراء :  1368       عدد التعليقات : 0