العامية العراقية مِثْلُ طينٍ حُرّي يتيحُ لك خياراتٍ في التشكيل الفني يعجز عنها الصخر الصلب؛ لذا آثرتُ جعل عنوان مقالتي هذه بالعامية العراقية لقدرتها على منح الموضوع أفقاً درامياً أوسع ممّا تفعل العربية الفصيحة.
أصلُ العنوان هو ممّا نقله بعض الحكّائين – ولاأظنّهم إلّا صادقين –عن الراحل المبدع (عزيز علي). قيل له أيام السبعينات من القرن الماضي: لِمَ لاتكتبُ وتغنّي مثلما كنت تفعل من قبلُ؛ فأجابهم: الجماعة مايحبّون شقه!!. ليت الجماعة إكتفوا بأن (لايحبّوا الشقه). فطروا قلب الرجل عندما أدخلوه السجن بتهمة الماسونية – تلك التهمة الغامضة التي إلتهمت بعضاً من أفاضل العراقيين مثل الراحل فاضل الجمالي. خرج الراحل عزيز علي من السجن وهو حطامٌ بشري لم يقوَ على مواصلة الحياة بعد أن ثُكِل بإبنه الذي إلتهمته مطحنة الحرب الثمانينية؛ فغادر الحياة سريعاً لكي يرتاح ممّن (لايحبّون شقه).
أبدع الجواهري – وهو المفطور على المبارزة والعراك ورفض الانكسار – في وصف هؤلاء الذين يرفضون كلّ مظاهر الجمال والحياة والحب. كان متألّقاً في (رسالته المملّحة) التي كتبها شعراً إلى صديقه (الفريق صالح مهدي عمّاش):
أترى العفاف مقاسَ أقمشةٍ... ظلمت إذن عفافا
هو في الضمائر لا تُخـــــــــــــــــــــــــاط... ولا تُقص ولا تُكافى
مَنْ لم يخَف عقبى الضمير... فمن سواه لن يخافا
هذه الرسالة المملّحة كشفٌ دقيق لجوانب من حياتنا العراقية أظنّه أعظم أثراً من كتب سمان كثيرة. يُجمِلُ الجواهري رؤيته ومبتغاه في عبارة صغيرة:
أشِع الحياة وبهجِها...... بموطنٍ يشكو الجفافا
هل فعل الجماعة ذلك؟ أبداً. لم يشيعوا سوى الحزن وكلّ مُسببات الاكتئاب. كان الجواهري يعرف خفايا من يخاطبُ. يقول له: أنت تذهب كلّما شئت إلى أوروبا (كمن يفي بنذر) وتطوف بها سبعاً وتفعل فيها ماشاء لك من الافاعيل، ثمّ عندما تعود إلى العراق تغلّظُ تعاملك مع العراقيين. يارجل إمنحهم البعض اليسير من الفرح الذي يستقطرونه تقطيراً في ملبس أو نمط حياة طالما أنهم لايؤذون آخرين. لايفهم السياسي العراقي هذه اللغة. يعمل بمعادلة صفرية صارمة: كلّ شيء طيب لي ولاشيء من الطيب للآخرين. ماذا يتوقعُ بعد هذا؟ عليه أن يتوقّع في الاقل دعوات مكتومة بزوال عرشه وأفول نعيمه، والدعوات المتراكمة لابدّ أن ينتج عنها فعلٌ نوعي مضاد بعد زمان طال أم قصُر.
الجماعة – بكلّ تلاوينهم الآيديولوجية – لايعرفون شَقَه لأنهم لايعرفون الابتسام. يكرهونه ولايطيقونه لأنّهم لم يتدرّبوا عليه. كلّ فعالية بشرية هي تدريب مدفوع بشغف نفسي وذهني. شاهدتُ قبل أيام أحد أساطين المشهد السياسي العراقي وهو يتصوّرُ (سيلفي) مع رجل طلب إليه ذلك. يبدو أنّ هذا السياسي عمل بمشورة قيلت له تقضي بضرورة الابتسام في مثل هذه الحالات عملاً بالسياق البروتوكولي. كانت النتيجة شبح إبتسامة زائفة متشنجة. التضاريس البدنية ستكشف لك حقائق لن يستطيع أحدٌ إخفاءها مهما حاول نقيضها. أوقنُ أنّ هذا الرجل لم يبتسم في حياته أبداً، وهو ماجعل الكتلة العضلية في وجهه تتخذ هذه الترسيمة الجامدة: زوايا حادة مع فم مزموم لايشي بالاسترخاء، ويشيعُ أجواء التوتّر والطوارئ لدى مُجالسيه وناظريه.
مع عيد الحب تتكرّرُ حكاية كلّ سنة مثلما يحصل مع أعياد الميلاد ورأس السنة. تُكسّرُ القلوب والدباديب الحمراء مثلما تُزال أشجارُ عيد الميلاد. يرى (الجماعة) في هذه الأفاعيل مؤامرة كبرى. أتخاف على (مواريثك الكبيرة) من مثل هذه الممارسات البريئة الصغيرة؟ سيقولون وهُمْ يتمحّكون بعبارات جاهزة: المؤامرات الكبرى تبدأ بنخرٍ صغير في القاع. سأجيب: هذه مغالطات تكذّبها الوقائع على الارض. عندما نجعلُ الحياة سلسلة ممتدة من الطوارئ والممنوعات فإنّنا نكون كمن يقفلُ الباب على نفسه ويمنع عنه الاوكسجين. الحياة لاتقادُ بممارسات الطوارئ وترك الموضوعات الستراتيجية نحو صغائر الافاعيل. هذا الامر يذكّرني بملاحقات (الانضباطية) لشبابنا. جيشٌ كامل من الرجال بكلّ ذيولهم الادارية والمالية. ماذا يفعلون؟ هل يخدمون إقتصاداً أو ثقافة؟
قد يكون السياسيون غيرُ العراقيين منافقين، كاذبين،،،، قل عنهم ماتشاء. لكنّ لهم فضيلة وحيدة على الاقل لايمكن نكرانها: إنهم يبتسمون، وليست إبتسامتهم وليدة مشورة بروتوكولية بل هي قديمة متأصلة في نفوسهم، لاأريد مديحهم. أنظرْ مثلاً إلى وجه أورسولا فون ديرلاين رئيسة المفوّضية الاوربية. لا أكنُّ لها ودّاً من أيّ نوع وقد سبق لي أن كتبتُ عنها مقالة ناقدة قاسية بسبب موقفها من الحرب الروسية – الاوكرانية؛ لكن هل يمكن نكران سحر ابتسامتها وأناقتها وإطلالتها الجميلة المشبعة بالدفء والتي تبعث الراحة والاسترخاء في نفوس مشاهديها؟ حتى ترامب، هذا البطل الشعبوي، عندما يقلّدُ بايدن فإنّه يتحولُ ممثلاً يفجّرُ الضحك المخبوء في أرواحنا.
ماخطبُنا – نحن العراقيين - مع الابتسامة؟ مامشكلتنا مع الضحك؟ لماذا نخاصمهما على مستوى البشر والساسة؟ سيحكي لنا – الانثروبولوجيون والحفّارون في تشريح طبقات التاريخ الاجتماعي / السياسي العراقي – أنّ الحزن ردّة فعل طبيعية لعصور من الضيم والفقر. أظنّ أنّ الامر ينطوي على تعقيدات أبعد من هذه الرؤية الاختزالية. الغربيون يعملون أكثر منّا، ويتحصلون على المال بكدّ ومشقة ولامجال لأيّ لعب أو مناورات في هذا الميدان. مع هذا تراهم يبتسمون. الحرب العالمية الثانية قتلت ملايين من الاوربيين ودمّرت معظم مدنهم الرئيسية وشلّت صناعتهم، وهكذا فعلت قبلها – وإن بمقادير أقلّ – الحرب الاهلية الامريكية. لم تكن الحرب يوماً سبباً لنسيان الابتسامة؛ بل ربّما كانت عنصراً لتحفيزها وإدامتها.
من لاتعرف الابتسامة طريقاً إليه هو كائن معطوب الروح سيكون عبئاً على روحه وأرواح الآخرين، ولو كان هذا الكائن ممّن إختاره القدر أو الصدفة ليكون صانعاً لسياسة بلده فسيكون العطب مضاعفاً. لن يكون سوى كائن يعظّمُ منسوب الارتباك والضياع في أرواح مأزومة.
لم يعمل السياسيون العراقيون – قدماء ومحدثين – في إشاعة البهجة في أرواح العراقيين، ولاأظنهم سيفعلون هذا في مستقبل قريب أو بعيد. الوجه العبوس والروح المأزومة لن تصنع أشياء طيبة في هذه الحياة. علينا أن ندرك هذا الامر بدقّة ولانخدع أنفسنا بحال جمّلته أموال النفط ببعض المساحيق الكثيفة.
أموال النفط ليست بديلاً عن الابتسامة، ولن تكون بديلاً عنها في يوم من الايام.