في عالم انفجر بتطورات تكنولوجية خارقة، في مجالات البيوتكنولوجيا والنانوتكنولوجيا وعلوم الجينوم والمواد والمناخ والطاقة والفيزياء الكمومية والتكنولوجيا الرقمية، ضاعت على العراق فرصة المشاركة في هذه التطورات ولم ينل منها نصيبه. فلم يكن له أي دور في هذه الاختراعات والابتكارات، ولم يتمكن من الاستفادة منها في تحسين حياة شعبه وتطوير بلاده، على الرغم من توافر العديد من اصحاب الشهادات العليا في هذه المجالات، التي تم إعدادها بعجالة محلياً وبامكانيات محدودة وبأدوات بسيطة ولم تسنح لها فرصة اظهار إمكانياتها، بل ضاعت في خضم الفساد والمصالح الشخصية وانعدام التكافؤ والفرص.
وكان السبب وراء ضياع الفرص هو انعزالنا وانغلاقنا وعدم تواصلنا مع العالم الخارجي يعود الى الارهاب والفساد والحروب والصراعات الداخلية والخارجية التي شهدها العراق منذ عقود، والتي أدت إلى تدمير البنية التحتية والمؤسسات التعليمية والبحثية والصناعية، وتشتيت الكوادر العلمية والفنية والهندسية، حيث اكتفينا باتصالنا المحدود محلياً ولم نفتح آذاننا وعيوننا وعقولنا لما يحدث في العالم من تقدم وتطور. فشلنا في استيعاب المعلومات والخبرات الحديثة في هذه المجالات المتقدمة، وبقينا في ظلمة التخلف حالنا حال كثير من الدول العربية التي تعاني من نفس الازمة. و زاد الطين بلة إهمالنا لتطوير القدرات الابتكارية والمهاراتية لأصحاب الشهادات العليا، واكتفينا بتعليمهم المواضيع المهنية التقليدية وبأساليب التلقين والحفظ.
وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة حول الملكية الفكرية، يحتل العراق المرتبة 131 من اصل 132 دولة في مؤشر الابتكار العالمي، لكن هذه المرتبة المتدنية بالرغم من التحديات التي تثيرها، لأنها تعني أن العراق قد اهمل إمكاناته في مجال الابتكار والتنمية، تثير القلق ايضا حول اهمية البحوث والاختراعات العديدة التي يعلن عنها الباحثون والمبتكرون العراقيون عن طريق اوراقهم البحثية وشهادات براءة الاختراع، وحول دور التربية والتعليم في تنمية القدرات الفكرية وتزويد الفرد بالمهارات والمعارف وتعزيز التنمية المستدامة وتشجيع البحث العلمي والابتكار.
ولكي نتعرف عن سبب حصول العراق على هذه المرتبة المتدنية في مؤشر الابتكار العالمي يجب علينا استكشاف الحالة المتخلفة والمتدهورة لعناصر هذا المؤشر فهو ليس مجرد مقياس لحالة التعليم والتكنولوجيا والابتكار وانما مقياس لكفاءة وفعالية النظام الايكولوجي للابتكار متمثلا في مؤسسات الدولة وحالة الاستقرار السياسي ورأس المال البشري والبحث والبنية التحتية وحالة الاسواق والاعمال التجارية، بالاضافة للنواتج المعرفية والتكنولوجية والابداعية، والتي جميعها تؤكد على ضرورة إجراء تحول جذري في هيكلة البحث والتطوير والابتكار، وللحاجة الى اصلاح شامل للنظام التعليمي.
وهو ما يتطلب اجراءات جوهرية وشاملة تتضمن تعزيز الاستقرار السياسي والرؤية السياسية لخلق بيئة مناسبة للابتكار والاستثمار، وتحسين البنية التحتية في مجالات النقل والاتصالات والطاقة والتكنولوجيا، وذلك لتوفير بيئة مساعدة للابتكار وتحفيز الاستثمار، والاهم هو ضرورة إجراء إصلاحات شاملة في نظام التعليم لتعزيز رأس المال البشري وتطوير المهارات والمعرفة اللازمة للابتكار، وتوفير التمويل الكافي والدعم للبحوث العلمية وتطوير التكنولوجيا، وتعزيز التعاون الدولي في مجال الابتكار وتبادل المعرفة والتجارب والتكنولوجيا مع الدول المتقدمة، ولابد ان يرافق ذلك إجراء إصلاحات في النظام القانوني والتنظيمي لحماية الملكية الفكرية وتسهيل عملية الاستثمار وتشجيع روح ريادة الأعمال. فقط من خلال العمل على تنفيذ هذه الإجراءات على المدى القريب والبعيد، يمكن للعراق تحقيق تحسين ملحوظ في مستوى المرتبة المتدنية في مؤشر الابتكار العالمي.
والآن، ماذا عسانا أن نفعل في عصر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي؟ هل نستسلم للتحدي الجديد الذي يهدد مستقبلنا وهويتنا؟ أم نستيقظ من سباتنا ونفتح آفاقنا للتواصل والتعاون مع العالم الخارجي؟ في هذا العصر، ستظهر اختراعات واختراقات وابتكارات جديدة في مجالات علوم الحاسبات والرياضيات وتطوير انظمة ذكية والتعلم الآلي والتعلم العميق ومعالجة اللغة والرؤية الحاسوبية والروبوتات وعلوم الأعصاب والادراك، تلك المجالات التي تحدد مصير البشرية ومستوى تقدمها ورفاهيتها. إذا لم نلتفت إلى هذا التحدي ونتخذ الإجراءات اللازمة الآن، فسنبقى مجرد مستهلكين لهذه التقنيات كما نفعله مع تلفوناتنا النقالة ووسائل الاتصال الاجتماعي دون أن نلعب أي دور في تطويرها أو تطبيقها، ولن نعرف معنى الاختراع والابتكار كما لم نعرفه في السابق. يبدو جليا انه في ظل ضعف البنية التحتية الحالية للتكنولوجيا، وانعدام الفرص المناسبة، تسود حالة من السبات العميق في المجال التكنولوجي في العراق. لهذا يجب على الحكومة العراقية أن تواجه هذه التحديات بجدية، وأن تستيقظ من هذا السبات لتستثمر في التكنولوجيا وتبني مستقبل أفضل لشباب العراق.
ثورة علمية ضرورية في نظام الابتعاث لنهضة العراق
نؤمن ايمانا عميقا بأهمية الابتعاث كركيزة اساسية لنهضة العراق الاقتصادية والتكنولوجية. ولطالما سعينا إلى إقناع القيادات السياسية بضرورة الابتعاث، ايمانا منا بأنه السبيل الأمثل لنقل المعرفة والخبرات من الدول المتقدمة إلى العراق. نحن في يومنا هذا بحاجة إلى ثورة في نظام الابتعاث للدراسة في الدول الغربية ونهل العلم منها والتواصل مع جامعاتها والتفاعل مع مؤسساتها العلمية والتكنولوجية، حتى نتمكن من الاستفادة من الخبرات الحديثة في هذه المجالات الحيوية، ونعود بما نتعلمه إلى بلادنا لنساهم في رفعتها وتقدمها، ونشارك بفعالية في الحوار العلمي العالمي ونساهم في تحقيق الانجازات العلمية. بكل يقين اؤكد ان نظام الابتعاث للدراسة في الدول الغربية اهم بوابةً لنقل المعرفة والخبرات من الدول المتقدمة إلى العراق لكنه يواجه العديد من التحديات التي تجعله بحاجة إلى ثورة شاملة لتطويره، كتوسيع نطاق التخصصات، وانشاء صندوق دعم للابتعاث يوفر تمويل دون الاعتماد على المنح الدراسية، وخلق بيئة مناسبة للبحث العلمي في الوطن لتشجيع الطلاب على العودة بعد اكمال دراستهم والمساهمة في تحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي. ولابد من الاشارة الى انه وبهدف معالجة بعض التحديات التي تواجه نظام الابتعاث، أطلقت رئاسة الوزراء مبادرة لابتعاث 5000 طالب. ان هذه المبادرة تعد خطوة إيجابية على طريق نهضة العراق العلمية والتكنولوجية، ونأمل أن تتبعها خطوات أخرى لتطوير نظام الابتعاث ودعمه، ليتسنى للطلاب العراقيين نيل أفضل الفرص التعليمية وتحقيق الإنجازات العلمية.