جلست امام حاسوبي، اصغي باهتمام الى حوارية على الزووم بعنوان "ستراتيجيات الجهل والتجهيل" التي قدمها الدكتور نجم حيدر والدكتور حميد الخاقاني على منبر حوار التنوير. كل كلمة القيت اثارت فيّ شعلة من التساؤل حول دور التعليم في نشر الجهل والتجهيل. كيف يمكن لمؤسسة تعد من اهم ركائز تقدم المجتمع ونشر المعرفة ان تصبح اداةً لنشر الظلام؟
من خلال الحوار، اصبح واضحا ان التاثيرات التاريخية والسياسية للتحكم في الافكار قد اسهمت في بناء استراتيجيات محكمة للحفاظ على سلطة الانظمة القمعية والفكر المنغلق. منذ بزوغ الحضارة وحتى يومنا هذا، نجحت هذه الانظمة في نشر الجهل وترسيخه، مما جعلها تتمكن من السيطرة على عقول الناس وتشكيل تفكيرهم. ومع مرور الوقت، تحول الجهل والتجهيل الى "علم" استغل لتحويل سلوكيات الافراد والجماعات. هذا الامر اثر سلبا على التفكير الحر والتقدم العلمي والحضاري، وادى الى خمول وانكسار في المجتمعات التي تحكمها تلك الانظمة المستبدة.
تجربتي الشخصية في التعليم اكدت صحة ما يقال: مناهج دراسية قديمة، تركيز على الحفظ والتلقين، بيئة لا تشجع على التفكير الحر… كلها عوامل تساهم في نشر الجهل والتجهيل. مع كلّ فكرة جديدة طرحت في الحوارية، ازدادت رغبتي في الغوص في هذا الموضوع المثير. ساقتني رغبة غامضة لاكتشاف خبايا عتمة الجهل ولافهم كيف يتم استغلال التعليم لخدمة أهداف سياسية أو دينية ضيقة وجعله أداة لتشويه العقول وغسل الدماغ بدلاً من نشر المعرفة.
في هذه المقالة، ساشارككم بعضا مما توصلت اليه من معلومات وافكار حول دور التعليم في نشر الجهل والتجهيل، وسأقدم بعض الحلول لتغيير هذا الواقع.
إضعاف التعليم
إضعاف التعليم هو مشكلة تواجه العديد من الدول، وتؤثر سلبا على مستوى التعليم وجودته. فالتعليم هو الاساس الذي يبنى عليه مستقبل الاجيال القادمة، ويمكنهم من المساهمة في بناء مجتمعات متقدمة ومزدهرة. لكن، للاسف، تعاني منظومة التعليم في عالمنا العربي بوجه الخصوص من ضعف وتراجع، بسبب عدة عوامل، منها:
اولا، تسييس التعليم: يعد التعليم وسيلة لنشر المعرفة والثقافة والقيم بين الاجيال، ولتنمية مهارات التفكير النقدي والابداع لدى الطلاب، ولتعزيز التواصل والتفاهم بين الشعوب. لكن، للاسف، تستغل منظومة التعليم في العديد من الدول العربية لنشر افكار وايديولوجيات معينة، وتساهم في تعزيز التعصب الديني والطائفي وتقويض قيم التسامح والقبول بالآخر، وخلق جيل مغلق على نفسه، غير قادر على التفكير النقدي وتقييم المعلومات، مما يعيق التقدم العلمي والتكنولوجي ويغذي الصراعات والتوترات، ولتخدم مصالح الحاكمين او الجماعات المتطرفة، بدلا من ان تخدم مصالح المجتمع. فمن خلال التلاعب بالمناهج التعليمية، وتلقين أفكار محددة دون تفكير نقدي، وتكميم حرية التعبير، وتحويل المعلمين إلى دعاة لأيديولوجية معينة، يمكن تحويل التعليم إلى أداة لتشويه العقول وغسل الدماغ. ويصبح التعليم حينها بمثابة سكين في يد المتطرفين، تستخدم لبث الكراهية والانقسام، وتعزيز التعصب، وخلق جيل مغلق على نفسه يعاني من حصارا ذاتيا، غير قادر على التفكير بحرية وتقييم المعلومات بشكل موضوعي.
وفقا لتقرير اليونسكو لعام 2023، فان الدول العربية وبدرجات مختلفة تفرض قيودا على حرية التعليم، وتمنع تدريس بعض المواضيع او الاراء التي تتعارض مع النظام السياسي او الديني السائد. هذا التسييس ينعكس على واقع التعليم، حيث نجد ان العديد من المناهج التعليمية تفتقر الى الحيادية والتنوع، وان العديد من المواد الدراسية المهمة، مثل العلوم الانسانية والفلسفة، تُهمش او تُحرف، وان العديد من الطلاب يتعرضون للغسيل العقلي او الارهاب الفكري.
ثانيا، اهمال تمويل التعليم: يعد التمويل احد العناصر الاساسية لضمان جودة التعليم، فهو يمّكن من توفير البنية التحتية اللازمة للمدارس والجامعات، وتجهيزها بالادوات والمواد التعليمية الحديثة، وتحسين ظروف العمل والتعلم للمعلمين والطلاب. لكن، للاسف، تخصص العديد من الحكومات العربية نسبة ضئيلة من موازناتها للتعليم، مقارنة بالدول الاخرى. هذا الانفاق الضعيف ينعكس على واقع التعليم في العالم العربي، حيث نجد ان العديد من المدارس والجامعات تفتقر الى البنية التحتية الكافية، وان العديد من المعلمين والاساتذة يعانون من رواتب متدنية، والعديد من الطلاب يفتقرون الى المواد والمصادر التعليمية الكافية. ولعل اهم مظاهر افتقار الطلاب الى المواد والمصادر التعليمية هي نقص الكتب والمصادر وتهالك المباني المدرسية ونقص الوصول الى الانترنت ونقص المهارات الرقمية وضعف استخدام التكنولوجيا وعدم وجود برامج تعليمية تفاعلية.
ثالثا، تركيز التعليم على الحفظ والتلقين: يُعد التعليم وسيلة لتنمية مهارات التفكير والتحليل والحلول لدى الطلاب، ولتمكينهم من مواكبة التطورات المتسارعة في العالم. لكن، للاسف، تركز العديد من انظمة التعليم العربية على الحفظ والتلقين بدلا من تنمية هذه المهارات. معظم الدول العربية تستخدم طرق تعليمية تقليدية، تعتمد على الحفظ والاملاء والاختبارات الموحدة، بينما تستخدم قسم قليل منها فقط طرق تعليمية حديثة، تعتمد على التفاعل والتعلم النشط والتقييم المستمر. هذا التركيز على الحفظ ينعكس على واقع التعليم، حيث نجد ان العديد من الطلاب يفتقرون الى القدرة على التفكير والتحليل، وان العديد من الخريجين يفتقرون الى المهارات اللازمة لسوق العمل. ومن المظاهر التي تدل على توجه التعليم نحو الحفظ والتلقين التركيز على المعلم كمصدر اساسي للمعلومات، والاعتماد على الامتحانات كأداة رئيسية للتقييم، وقلة التركيز على مهارات التواصل والتفكير النقدي والتعلم التفاعلي، والتركيز على المناهج الدراسية التقليدية، وقلة استخدام التكنولوجيا في التعليم.
رابعا، التضيق على حرية البحث العلمي: يُعد التضييق على حرية البحث العلمي ظاهرة مقلقة تهدد تقدم المجتمعات العربية، وتعيق مسيرتها نحو التطور والازدهار. وتتخذ هذه الظاهرة اشكالا مختلفة، مثل ملاحقة الباحثين، واغلاق مراكز البحث العلمي، ومنع نشر الابحاث العلمية، والتضييق على تمويلها، وفرض رقابة عليها. وتؤدي هذه الممارسات الى نتائج كارثية، منها اعاقة تقدم العلم والمعرفة، وهجرة العقول، وخلق جو من الخوف والرهبة بين الباحثين، وانتشار الفساد في مجال البحث العلمي. وتؤدي هذه النتائج بدورها الى تفاقم مشكلات المجتمع، وتعيق قدرته على التطور والازدهار.
الاثار السلبية لإضعاف التعليم
يؤدي إضعاف التعليم الى العديد من الاثار السلبية على المجتمع، منها:
ــ ارتفاع معدلات الامية والامية المقنعة والجهل: مما يعيق التقدم العلمي والتكنولوجي في المجتمع. فالعديد من الناس لا يحصلون على التعليم الاساسي او العالي، مما يجعلهم غير قادرين على قراءة وكتابة وحساب، او على اكتساب المعرفة والمهارات اللازمة للتعامل مع العالم الحديث. وفقا لتقرير اليونسكو لعام 2023، فان متوسط معدل الامية في الدول العربية هو 25.6%، بينما هو 6.2% في الدول الاوروبية. هذا الارتفاع في الامية والجهل ينعكس على واقع المجتمع في العالم العربي، حيث نجد ان العديد من الناس يعانون من الفقر والمرض والاستغلال. اما الامية المقنعة فهي خطر كبير يهدد التطور والنمو لما تمثله من عدم القدرة على استخدام المهارات الأساسية للقراءة والكتابة والرياضيات بشكل فعّال في الحياة اليومية. هناك انواع كثيرة من الامية منها الثقافية والمالية والعددية والاحصائية والوظيفية والعقلية والجدلية. لكن الامية المقنعة تمثل أخطر أنواع الأمية وأكثرها تدميرا. لان الامي المقنع بالرغم من كونه "متعلم"، لا يعرف أنه لا يعرف. إنها وباء متنام، تتكاثر في مجتمعنا.
ــ انتشار البطالة: بسبب عدم تاهيل خريجي التعليم لسوق العمل. فالعديد من الخريجين يفتقرون الى المهارات العملية والتقنية واللغوية التي تتطلبها الوظائف المتاحة، مما يجعلهم عاطلين عن العمل او يضطرون الى العمل في وظائف لا تتناسب مع مؤهلاتهم. يبلغ متوسط معدل البطالة في الدول العربية في يومنا هذا 15.6%، مقارنة ب 5.4% في الدول الاوروبية.
ــ تراجع الاخلاق والقيم: بسبب غياب التنشئة السليمة للطلاب. فالتعليم ليس مجرد نقل المعرفة والمهارات، بل هو ايضا تربية الطلاب على الاخلاق والقيم الانسانية، مثل العدل والحرية والمساواة والتسامح والتعاون والنزاهة. لكن، للاسف، تفتقر العديد من المناهج التعليمية في العالم العربي الى هذا الجانب التربوي، مما يجعل الطلاب ينشئون على قيم سلبية، مثل الطائفية والتعصب والعنف والفساد. يبدو ان 42% من الدول العربية تفتقر الى تعليم للمواطنة والحقوق الانسانية، بينما تفتقر 58% الى تعليم للتنوع الثقافي والحوار بين الحضارات. هذا التراجع في الاخلاق والقيم ينعكس على واقع المجتمع في العالم العربي، حيث نجد ان العديد من الناس يعانون من الانقسام والصراع والفساد.
ــ انتشار التطرف والعنف: بسبب غياب الفكر النقدي لدى الشباب. فالتعليم هو وسيلة لتنمية الفكر النقدي والمنطقي لدى الطلاب، ولتمكينهم من التمييز بين الحق والباطل، وبين الواقع والخيال، وبين العلم والخرافة. لكن، للاسف، تفتقر العديد من انظمة التعليم العربية الى هذا الجانب التفكيري، مما يجعل الطلاب يقبلون على الافكار والايديولوجيات المتطرفة والعنيفة، التي تستغل جهلهم وضعفهم وغضبهم. وينعكس انتشار التطرف والعنف على واقع المجتمع في العالم العربي، حيث نجد ان العديد من البلدان تعاني من الحروب والنزاعات والتدخلات الخارجية.
ــ انتشار الخرافات والشعوذة: تنتشر ثقافة الخرافات والشعوذة من خلال قنوات متعددة، تشمل البرامج التلفزيونية التي تقدم محتوى مضللا يروج للافكار غير العلمية، وربط الاحداث الطبيعية بظواهر غيبية. كما تنتشر على الانترنت مواقع الكترونية تروج للافكار غير العلمية وتقدم معلومات مضللة حول مواضيع مثل الطب البديل والتنجيم وقراءة الطالع والسحر والشعوذة وتفسير الاحلام وقراءة الكف. ويروج بعض رجال الدين لافكار متطرفة ويحرّمون التفكير النقدي ويشجعون على الاعتماد على الخرافات والشعوذة بدلا من العلم. ثقافة الخرافات والشعوذة تعيق التقدم العلمي وتؤدي الى انتشار الافكار المتطرفة وتهدد استقرار المجتمعات. كما تضعف التفكير النقدي وتؤدي الى الاعتماد على الافكار المسبقة وتعيق قدرة الانسان على تحليل المعلومات بشكل عقلاني.
اخيرا، في هذه المقالة اظهرنا أن التعليم، بينما يفترض به ان يكون شعلة تنير دروب الجهل، يمكن ن يتحول الى سلاح يستخدم لنشر الظلام والتجهيل. فضعف منظومة التعليم في العديد من دول العالم العربي، الناتج عن عوامل سياسية واقتصادية وثقافية، ادى إلى تفاقم مشكلات الجهل والأمية والبطالة والتطرف.
ولكن، لا يزال الأمل قائماً مع تضافر الجهود من الجميع لتحقيق الأهداف العليا، يمكننا إعادة بناء منظومة تعليمية قوية قائمة على العلم والمعرفة والتفكير النقدي، تساهم في نهضة المجتمع وتعزز قدرته على مواجهة تحديات المستقبل.
حان الوقت لجعل التعليم سلاحا لتحرير العقول ونشر النور بدلا من كونه أداة لنشر الجهل والتجهيل.