قبل ستة وستين عاما، أصبح العراق جمهورية: وخلال مدة قصيرة لا تتجاوز خمس سنوات من عمر الثورة التي قام بها مجموعة من الضباط الأحرار بقيادة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، تحققت من بين أهم منجازاتها الوطنية الرئيسة إزاحة النظام الملكي في العراق وهذا الإنجاز وحده كان طموح كبير للكثير من العراقيين الذين يسعون لنظام حكم ديمقراطي في بلادهم. وعلى مستوى السياسية الخارجية حققت أهم شرطين للعراق: الخروج من النظام النقدي الإسترليني البريطاني والانسحاب عام 1959 من حلف بغداد العدواني الذي ضم المملكة المتحدة وتركيا وإيران وباكستان. وعلى مستوى الخدمات الاجتماعية: تم إعمار المدن وتوفير السكن لأصحاب الدخل المحدود والفقراء والتركيز على تحسين البنية التحتية وتعزيز قطاعي التعليم والصحة وبناء مدارس جديدة ومستشفيات وطرق ومرافق أخرى لخدمة الشعب العراقي. أيضا، إقرار قانون حرية الصحافة والأحزاب وإلغاء نظام العبودية وتشريع محله نظام الأحوال المدنية الذي يكفل حقوق المرأة ورعاية الطفل والأمومة، وهذا كان إنجازا مهما في مجال حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
لكن لم يمض خمس سنوات على عمرها حتى أجهضت الثورة وتم الانقضاض على مسيرتها الوطنية دون رحمة والحذر من سقوط الضحايا بانقلاب عسكري فاشي تآمري خططت له دوائر استعمارية بمشاركة قوى عراقية مدنية، بعثية وقومية، عربية وكردية. وهو ما حدث وجعل العراق حالة من اليأس والخراب والتشرذم حتى يومنا هذا، تتجاذبه الصراعات السياسية والطائفية لأجل البقاء في السلطة واستنزاف موارده وسرقة أمواله وعقاراته ونهب قوت الفقراء.
وعلى الرغم من تلك الإنجازات التي حققتها ثورة تموز 58 في مدة قياسية، لا يمكن إنكار أن الحالة العراقية أبان "حكم البعث" شهدت تحديات وتوترات وصراعات في السياسة والأمن، وتم تنفيذ العديد من الانقلابات والتغيرات الحكومية المتكررة التي ألقت بظلالها على الجانب الشامل لمآثر ثورة تموز والتغيرات اللاحقة على العراق وشعبه.
لقد قسم البريطانيون العراق عام 1920 إلى ثلاث مقاطعات تابعة للإمبراطورية العثمانية. ولم يكن المجتمع في أي بلد آخر في الشرق الأدنى والأوسط يتكون من مثل المجموعات العرقية والثقافية المتنوعة التي يمتاز بها العراق. وكان من الواضح أن المجموعات الفردية شعرت بأنها أكثر ارتباطا بمعاييرها الوطنية وهوياتها التقليدية أكثر من ارتباطها بالمفاهيم الغربية التي تضع أهمية لمصالحها الاستعمارية بالضد من مصالح شعوب الدول التي تقع تحت سيطرتها.
فالسنة والشيعة، والمدن والقبائل، والشيوخ والزعماء، الوطنيون العرب والأكراد والمسيحيون، والاشتراكيون والديمقراطيون والقوميون العراقيون قاتلوا بضراوة من أجل الحصول على مكانهم في هياكل الدولة "الجمهورية العراقية" الناشئة. ولأن النظام السياسي الذي أدخله البريطانيين لم يكن يتمتع بالشرعية بين الناس، فقد اجتاحتهم رغبة تغيير شكل وطبيعة نظام الحكم.
الملك فيصل الثاني، لم يكن يحظى بشعبية كبيرة لدى الناس. ولكن كان من المعروف أنه لم يحكم إلا كدمية في أيدي البريطانيين.
وكانت كراهية الجماهير موجهة ضد رئيس الوزراء نوري السعيد، لأنه استخدم الشرطة لقمع الإضرابات الاجتماعية والمظاهرات الطلابية. والحقيقة، على المرء ان يعرف: ان الظروف الاجتماعية المعيشية المزرية التي كان يعيشها الناس، هي السبب الرئيس وراء السخط وقيام الثورة في يوم 14 تموز 1958 رغم أنها كانت محفوفة للغاية بالمخاطر والملاحظات المختلفة. لكن بالنسبة للمراقب اليقظ، لم تكن الثورة على الإطلاق مفاجئة: فهي كانت نتيجة موضوعية لتلبية احتياجات الشعب العراقي الأساسية وتحقيق الامن والاستقرار والعدالة المجتمعية والسلم الأهلي.