الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
محنة النزاهة في العراق: موقف القضاء من هيئة النزاهة (3)

أختصر المراحل للقفز الى صلب الموضوع وهو طبيعة التعامل مع هيئة النزاهة:

أولا: موقف السادة القضاة من هيئة النزاهة:

عند استلامي رئاسة هيئة أصدرت أوامر رسمية مكتوبة بمنع إحالة أية قضية فساد الى المحاكم دون استكمال: التحري، التدقيق ، التحقيق ويكون معيار نجاحنا ليس عدد القضايا المحالة بل عدد قرارات الإدانة الصادرة بشأنها بحيث تكون قرارات الحكم بالإدانة هي القاعدة وقرارات الحكم بالبراءة هي الاستثناء.

فعلت ذلك لأني وجدت أن معظم القضايا المحالة للمحاكم تنتهي أما بالغلق لعدم وجود الأدلة الثبوتية أو البراءة بسبب عدم كفاية الأدلة.

الذي لاحظته:

1. عدم صدور أي قرار بالإدانة في القضايا التي أحالتها هيئة النزاهة الى المحاكم على وفق التعديل الوارد في قانون تأسيس مفوضية - هيئة - النزاهة " أمر سلطة الائتلاف رقم 55 لسنة 2004" لقانون العقوبات والذي نص على معاقبة مرتكبي قضايا الفساد بـالحرمان من الوظيفة والسجن لمدة تصل الى 10 سنوات وغرامة تصل الى 10ملايين دولار ، حيث نص على الآتي:

بإضافة ما يأتي إلى نهاية المادة (136) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل:

"(4) إذا كان العمل ينطوي على مخالفة الإحكام المنصوص عليها في الأقسام الفرعية 2(4) (أ) إلى (د) من القانون الأساسي الذي تم بموجبه إنشاء هيئة النزاهة ، يفقد مرتكب المخالفة فوراً وبصورة دائمية أهليته للعمل في وظيفة حكومية أو للتعاقد لتوفير البضائع والخدمات للحكومة وتكون عقوبته في تلك الحالة ـ ما لم يقتض نصاً آخر في القانون عقوبة أكثر صرامة, السجن لمدة تصل إلى 10 سنوات وغرامة تصل إلى عشرة (10) ملايين دولار أمريكي أو ما يعادلها بالدينار العراقي ومصادرة جميع أو أي من المبالغ المالية والأصول والأشياء الملموسة المستحصلة من ارتكاب المخالفة أو من ممارسة نشاط يتعلق بها ، وإرغام المخالف لتعويض المتضررين ."

- لماذا يحصل ذلك ...؟ قالوا: عندما نسأل أحد القضاة يقلب شفته قائلاً: هذه قوانين بريمر..! ويقصد أنه لا يعترف بها، فكنت اتساءل: صحيح ان قانون تأسيس الهيئة صدر بتوقيع بريمر ولكن قانون تأسيس مجلس القضاء الأعلى الذي جعل منه مستقلاً عن السلطة التنفيذية بعد ان كان جزء منها تحت أمرة وزارة العدل كان بتوقيع بريمر أيضا، وقانون تأسيس المحكمة الاتحادية العليا بتوقيع بريمر أيضاً ، فلماذا يتم التعامل مع تلك القوانين بأريحية في حين تشهر بوجه قانون هيئة النزاهة شماعة بريمر...؟

وقد بينت قبل هذه السطور أن من أعد قانون هيئة النزاهة هم عراقيون اعضاء في مجلس الحكم الانتقالي ولكن في تلك الحقبة حكما تصدر القوانين باسم سلطة الائتلاف وبتوقيع بريمر.

2. بمرور المدة وجدت أن نسبة غير قليلة من القضاة كانوا يرون في هيئة النزاهة كيان طارئ وغريب وان مكافحة الفساد ينبغي أن تتم من قبل القضاء حصراً في حين:

أ- أن القضاء العراقي ليس مثل القضاء الفرنسي أو الإنكَليزي الذي قرأنا عنه في شبابنا يقوم بالتحري المعمق من خلال مفتشي الشرطة في حين أن كشف قضايا الفساد يتطلب التحري وجمع الأدلة والتدقيق والتحقيق وهذا عمل هيئة النزاهة.

ب- والقاضي في العراق لا يتحرك من تلقاء نفسه بل يبدأ عمله بعد شكوى تقدم اليه من قبل أحد أطراف الخصومة أو الادعاء العام، في حين أن قضايا الفساد تتطلب التحرك نحوها وكشفها وهذا هو عمل هيئة النزاهة.

ج- والقاضي في العراق يحكم بموجب الأدلة الموضوعة أمامه فإن كانت غير كافية حكم ببراءة المتهم، في حين ان قضايا الفساد تتطلب جمع وملاحقة وتهيئة الأدلة الثبوتية لأثبات ارتكاب فعل الفساد وهذا هو عمل هيئة النزاهة.

د- والقضاء لا يكفي وحده لتحقيق الغاية من وجوده فما قيمة أن يصدر حكم بإدانة مرتكب الفساد دون أجهزة انفاذ للقانون كفوءة ونزيهة ومن دون ملاحقة المتهمين أو المحكومين الهاربين واستردادهم واسترداد الأموال المسروقة من قبلهم وقد تكون قد هُربت الى خارج العراق ، وهذا هو عمل هيئة النزاهة.

فإذن لا تناقض بين عمل الهيئة واختصاص القضاء .

3. كان معظم القضاة يعتبرون هيئة النزاهة مجرد مخبر في حين انها شريك أساسي قبل التقاضي واثنائه وبعده وفقاً للقانون ، حتى أن رئيس هيئة الادعاء العام في مجلس القضاء الأعلى وجه كتب رسمية يطلب من الهيئة إحالة القضايا إلى مجلس القضاء الأعلى دون اتخاذ أي إجراء عليها من قبل الهيئة، في حين أن الآثار المترتبة على ذلك لا تلحق الضرر بهيئة النزاهة وتفشلها فقط ولكن تحبط جهود مكافحة الفساد، ففي حالة الاكتفاء بإحالة الهيئة القضايا للمحكمة من دون توفير الأدلة فان مصير القضية معروف أما الغلق بسبب عدم توفر الأدلة أو الإفراج عن المتهم وإخلاء سبيله لعدم كفايتها.

4. القضاء والقاضي في العراق مرَّ بظروف قاسية ومدمرة شأنه شأن الجميع قبل عام 2003 ويتطلب الأمر جهود كبيرة لتخليصه من تبعاتها من خلال النقد والتقويم ولا ينبغي النظر الى النقد الهادف والمخلص على انه انتقاص منه أو عداء له ، حتى أني قبل سنوات كنت قد كتبت مقالة بعنوان : أسباب تدهور الثقة بالقضاء العراقي.. وعلى أثر ذلك وردتني رسالة من السيد الناطق الرسمي باسم مجلس القضاء الأعلى هذا نصها ونص مقالتي:

الاستاذ موسى فرج المحترم

تحية طيبة

اطلعنا باهتمام على مقالكم المنشور في موقع كتابات بعنوان (استحداث محكمة مختصة في قضايا الاعلام ...اسباب تدهور الثقة بالقضاء العراقي) وقد تم عرضه على انظار السيد رئيس مجلس القضاء الاعلى ونسب سيادته بنشر المقال في الموقع الالكتروني للسلطة القضائية لاحتواء المقال على امور موضوعية واعتزازا بكاتبها بعد الاتصال بجنابكم والموافقة على النشر ... متمنين لكم الموفقية

مع فائق التقدير

القاضي

عبدالستار غفور بيرقدار

أسباب تدهور الثقة بالقضاء العراقي..

موسى فرج

1. أسباب تدهور الثقة بالقضاء العراقي: هذه العبارة قد تخدش مسامع الكثيرين باعتبار أن أغلب الأطراف الحكومية والسياسية ، وحتى الشعبية ، عندما يتكلم أو يكتب فانه يشيد بالقضاء العراقي، وهو أمر يتعارض مع القول بضعف الثقة فيه. الأصوات أو الأقلام التي تشيد بالقضاء العراقي بعضها ينطلق من الرغبة لما يكون عليه القضاء العراقي، وأزعم أني من ضمن هذه الفئة، وبعضها يتزلف الى القضاء العراقي مسبقا خشية مواجهته في المستقبل فيتعرض لرد الفعل ، وهو أمر ناجم عن شعور بالرعب مخزون في دواخل المواطن العراقي من القضاء بوصفه الذراع الضارب للاستبداد الصدّامي الذي عرف عنه ممارسات قطع اللسان والأذن والخضوع الأعمى للسلطة التنفيذية ، وبعضها يتزلف الى القضاء أملا في موقف ساند لوضعه السياسي فإن لم يحصل على ما يشتهي قلب له ظهر المجن، وبعضها يطعن بالقضاء العراقي منطلقا من موقفه المناهض من النظام السياسي الجديد برمته ، ولكن هذا لم يمنع من وجود أصوات تنقد القضاء العراقي بهدف التقويم وهو أمر مشروع ومفيد وضروري وينطلق من الطموح لما نتمنى أن يكون عليه القضاء العراقي.. وقد يستطيع القضاء إن توافرت الإرادة الصلبة لديه أن يقود عملية التغيير والإصلاح في العراق..

2. في العام 2006، وعندما هرب وزير الدفاع الأسبق ، حازم شعلان إلى كردستان بعد توجيه تهم له بالفساد من هيئة النزاهة وإحالتها للقضاء وصدور أمر بالقبض ضده.. أطلق السيد مسعود بارزاني تصريحاته الشهيرة ضد القضاء العراقي متهما إياه بأنه غير مؤهل وغير عادل، رددت عليه بمؤتمر صحفي عقد في قصر المؤتمرات نقلته معظم وسائل الإعلام مبينا أن طبيعة خدمات القضاء لا يمكن استيرادها من الخارج مثل الأدوات الاحتياطية.. وأيضا لا يمكن إرسال المحتاجين لخدمات القضاء للخارج كما هو الحال بالنسبة للخدمات العلاجية والصحية ، ويوجد سبيل واحد لمعالجة مكامن الضعف في القضاء العراقي ينحصر في بيان نقاط الضعف بموضوعية وشجاعة ومعالجتها.. أما الاكتفاء بالطعن بأهلية وعدالة القضاء العراقي فأمر لا يحل المشكلة.

3. مهنة القضاء في العراق كما المهن الأخرى، كالطب مثلا، لها تاريخ مشرف لكنها تعرضت إلى تخريب وتدمير ماحق في عهد نظام صدام وقُوضت تقريبا الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها، ولم ينفرد القضاء بذلك.. ففي مجال الطب لم يحصل في تاريخ العراق قبل نظام صدام أن قام طبيب عراقي بقطع اللسان أو جدع الأذن أو الأنف أو وسم الجبهة لكن ذلك حصل في العراق من خلال أطباء مأمورين.. النبيل منهم غادر العراق هاربا من التورط في تلك الممارسة، والضعيف منهم مارسها بخضوع، والدنيء مارسها بروحية الملكي أكثر من الملك.. تلك الممارسات لم تكن آنية وانفعالية، بل كانت مقننة ومشرعنة بنصوص قانونية.. الذي نبه أو شجع أو أسهم في سنها يحتل مكانه الوضيع في وادي المقت العراقي، وإن لم تتم الإشارة إلى اسمه صريحا.

4. في القضاء العراقي حصل مثل ذلك أيضا عندما بات القاضي مأمورا لدى السلطة التنفيذية الغاشمة.. بعض القضاة غادروا ساحة القضاء، بل والعراق، وبعضهم عزف عن العمل في الميدان، وبعضهم كالقابض على الجمر، وبعضهم يهمس لأحد المتخاصمين وربما لكليهما: (دير بالك علينا..)، وبعضهم يجلبون له المتهم إلى المحكمة وثوبه منقوع في دمه وهو يستجير بعدالة القاضي قائلا: لقد أخذوا الاعتراف مني بالإكراه، فيكتب على ملفه: (المحقق / للتعمق بالتحقيق..!) وهذا يعني الأمر بمزيد من التعذيب كي يردد ذات الاعترافات التي لقنوه بقولها في التحقيق اغتصابا، وبعضهم بات غشوما أكثر من السلطة التنفيذية الغاشمة، بل وأن بعضهم كان جزءا منها فقد بلغ الأمر بأنك تصادف قاضيا يرتدي الزيتوني ويقف بإمرة أحد أفراد الجيش الشعبي في السيطرات يفتش المارة.. كل هذا حصل للقضاء وفي القضاء.. في أجواء النظام الصدامي كان هناك ثالوث غير مقدس قائم اسمه: (محام قاض ضابط) وعندما يكتب على العراقي أن يكون بمواجهة مع القضاء فليس أمامه البحث عن المحامي الكفء بل المحامي المعروف بـ (ينسق) وهي مفردة تعني وجود الصلة غير الشريفة بين المحامي والقاضي وضابط الشرطة، وكلما كانت صلة المحامي بأركان النظام أو أزلامه قوية كانت الثقة به مطلقة.. هل انتهت تلك الممارسات..؟ قطعا لا.. قد تكون تحجّمت، ولكن من دون أن تنتهي، لأن وجودها مرهون بالقاضي الإنسان وبرأس السلطة التنفيذية.

5. المشكلة الأزلية في القضاء هي موضوع الاستقلالية.. وعندما تتكلم الحكومة أو مجلس النواب أو القضاء نفسه يسمع منهم الناس بأن القضاء مستقل.. ما الدليل؟ يسارعون إلى الإشارة إلى نص في الدستور ينص على أن القضاء مستقل ولا سلطان عليه إلا للقانون، ويعرضون عليك نصا آخر ينص على مبدأ فصل السلطات، ولكن هل يكفي وجود أي من النصين أو كليهما لضمان استقلال القضاء..؟ أبداً.. وهل أن استقلال القاضي كفيل وحده بأن يجعل منه عادلا..؟ أيضا.. لا.. الأصل في القاضي أن يكون عادلا، ومن بين الشروط وليس كلها أن يكون مستقلا.. فعندما يكون جائرا، وإن كان مستقلا، فلن تتحقق العدالة، وإن كان غير ملم وبأفضل صورة فلن يكون عادلا وإن توافرت له سبل الاستقلالية.. إذن لكي يصل القاضي إلى غايته في تحقيق العدالة عليه أن يكون ملما أولا، وأن يكون مستقلا ثانيا، والاستقلال مربط الفرس وهو نوعان:

- استقلاله عن الهوى: وهو أمر لا يحققه النص على استقلال القضاء في الدستور ولا النص على مبدأ فصل السلطات في الدستور، إنما تحققه استقامة القاضي ومبدئيته ونزاهته وشجاعته..

- استقلاله عن الضغوط: وهو أمر تساعد عليه النصوص المشار إليها، ولكن لن تصنعه وحدها، بل انه يتوقف على عاملين:

الأول: إن الحاكم التنفيذي يريد ذلك لأنه بالأساس مستقيم.

والثاني: لأن القاضي مستقيم بصرف النظر عن حال الحاكم أو رغبته.

أما إن اجتمع العاملين معا : حاكم عادل وقاض عادل فتلك جنة على الأرض ..

كنت مره .. في زيارة لأحد قياديي مجلس القضاء، فقال: (أمس دَزَّ عليّ نائب رئيس الجمهورية بشأن ناس موقوفين وبالشافعات خلصت روحي..) نظرت الى وجهه وضحكت.. قال: ما يضحكك؟.. قلت له: قبل أسبوعين كنت أتابع برنامج اسمه (من داخل واشنطن) من فضائية الحرة ـ عراق ، ويقدمه أميركي يتكلم بلغة عربية مكسرة، وكان ضيف البرنامج قاض من المحكمة الاتحادية في عهد بوش وسأله مقدم البرنامج: هل يتصل بك الرئيس بوش هاتفيا ليمارس عليك ضغوطا..؟ فقال الرجل بإباء رائع: مضى علي في وظيفتي هذه 30 سنة، وعاصرت عددا من الرؤساء، ولم يرفع رئيس أميركي سماعة الهاتف ليطلبني.. ولو حصل ذلك لكان جوابي هو أن أضع ورقة استقالتي على الميز وأغادر مكتبي.. هذه هي الاستقلالية.. ولكن من صنعها؟ الرئيس الأميركي؟ لا.. نائب الرئيس العراقي؟ لا.. إنما صنعتها استقلالية القاضي والتزام المسؤول التنفيذي الأعلى بالدستور. عدد هائل من قضاتنا تجدهم يتلبكون (يتلبكون: مفردة شعبية عراقية معناها يكثرون التردد على المكان المعني) في مقرات الأحزاب.. والأحزاب متناطحة، وهو أمر محرم قانونا ودستوريا..! استقلال القضاء يصنعه القاضي أولا والحاكم ثانيا..

التنفيذيون عندنا يوكلون رئاسة أجهزة الدولة لأتباعهم وإن لم يكن هذا ..فإنهم يستجلبون من به (إنَّ) ويقولون له: سنضعك في الموقع الفلاني ولكن: انظر.. هذه (إنَّاتك)..فان كنت رهن طوعنا سلمت ..وإلا.. فإننا سنثير عليك (إنَّاتك) وأنت تعرف البقية.. ومن ثم يختارون من له بأحدهم صلة حزبية أو عشائرية أو مناطقية ويضعونه تحت (خشم) المسؤول عن الجهاز الحكومي ليشغل الخط الثاني بعده.. على ان يكون موالٍ أو عنده (إنَّات) وتكون مهمته أن يكون عينهم على المسؤول الأول في المؤسسة أو الجهاز ويغدقون عليهما.. فمن خفت موازينه صار مجرد طلقة في مسدساتهم وبات رهين سباباتهم متى ما ضغطت على الزناد وأما من كانت موازينه ثقيلة ويتصرف بوحي من المصلحة العليا للبلد والقيم والمثل العليا ولا يخضع لهم وليس لديه (إنَّات) فإنهم يناصبونه العداء فان أتعبهم أقالوه..

دور رؤساء هيئة النزاهة بإضعافها:

أثناء استجوابه من قبل مجلس النواب قال رئيس الهيئة الذي سبقني أن: (هيئة النزاهة ليس اختصاصها جمع وتهيئة الأدلة ، ونحن نحيل القضية إلى المحكمة سواء توفرت أدلة أو لم تتوفر.)..!

رئيس الهيئة قال ذلك من منطلق تشبثه بأن تكون للهيئة صفة قضائية أو على الأقل أن تكون امتداد للقضاء لكي يحتمي به لضعفه، لكن ذلك شكّل طعنة للركن الأول الذي أسست عليه هيئة النزاهة وهو استقلالها، وهو في نفس الوقت منح الجهات القضائية المبرر لتتعامل مع هيئة النزاهة بصفتها مجرد مخبر ليس أكثر والذي بينت ضرره الماحق على هيئة النزاهة وعملها وتبعاً لذلك قضية مكافحة الفساد.

لكن رئيس هيئة النزاهة الذي جاء بعدي غفر الله له والشعب تسبب بكارثة ضربت هيئة النزاهة وقضية مكافحة الفساد بالصميم ، عندما أجهز على أهم ركن ورد في قانونها الأساسي " أمر سلطة الائتلاف رقم 55 لسنة 2004" وهو ركن الردع ، اذ انه عندما أعد قانون بديل لقانونها الأصلي ودفعه للبرلمان لتشريعه وصدر تحت اسم : "قانون رقم 30 لسنة 2011 – قانون هيئة النزاهة الاتحادية والكسب غير المشروع":

1. اختزل القضايا التي تدخل ضمن اختصاص هيئة النزاهة باعتبارها أفعال فساد من تلك المشمولة بـ 34 مادة من مواد قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل الى الأفعال المعاقب عليها وفق 10 مواد منه فقط وكما يلي:

القضايا التي تتعامل معها هيئة النزاهة باعتبارها قضايا فساد بموجب قانونها الأصلي " أمر سلطة الائتلاف رقم 55 لسنة 2004" هي الآتي:

تعني قضية فساد قضية جنائية تتعلق بحالة يشتبه بأنها تنطوي على خرق نص مما يأتي: أ. الفقرات :233 ،234،271، 272،275، 276،290 ،293 ،و296 من قانون العقوبات. ب. الفقرات من307 إلى 341 (الفصل السادس) من قانون العقوبات .

ج. أي بند من قانون العقوبات ينطبق عليه نص البنود 5 و6 أو 7 من الفقرة 135 التي أضيفت بواسطة القسم 6 من هذا الإجراء أو.

د. أي بند آخر من قانون العقوبات تكون فيه وقائع الحالة التي يشتبه أنها تنطوي على خرق مشابهة لحالات يشتبه أنها تنطوي على خرق لنصوص الأحكام الوارد ذكرها في البنود الفرعية من أ إلى ج أعلاه .

في حين تم اختزالها في القانون رقم 30 لسنة 2011 الى هذه فقط:

المادة (1): قضية فساد : هي دعوى جزائية يجري التحقيق فيها بشأن جريمة من الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة وهي الرشوة والاختلاس وتجاوز الموظفين حدود وظائفهم ، وأية جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المواد :233 و234 و271و272و275و276و290و293و296 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل وأي جريمة أخرى يتوفر فيها أحد الظروف المشددة المنصوص عليها في الفقرات 5و6و7 من المادة 135 من قانون العقوبات النافذ المعدلة بالقسم 6 من القانون التنظيمي الصادر عن مجلس الحكم المنحل الملحق بأمر سلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة المرقم 55 لسنة 2004 .

2. والأخطر من ذلك انه نزع مخالب الهيئة المتمثلة بالردع فلم يدرج في القانون الجديد التعديل الذي يضمنه قانونها الأصلي الخاص بتعديل قانون العقوبات وهذا نصه:

بإضافة ما يأتي إلى نهاية المادة( 136) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل:

"(4) إذا كان العمل ينطوي على مخالفة الإحكام المنصوص عليها في الأقسام الفرعية 2(4) (أ) إلى ( د) من القانون الأساسي الذي تم بموجبه إنشاء هيئة النزاهة ، يفقد مرتكب المخالفة فوراً وبصورة دائمية أهليته للعمل في وظيفة حكومية أو للتعاقد لتوفير البضائع والخدمات للحكومة وتكون عقوبته في تلك الحالة ـ ما لم يقتض نصاً آخر في القانون عقوبة أكثر صرامة, السجن لمدة تصل إلى 10 سنوات وغرامة تصل إلى عشرة (10) ملايين دولار أمريكي أو ما يعادلها بالدينار العراقي ومصادرة جميع أو أي من المبالغ المالية والأصول والأشياء الملموسة المستحصلة من ارتكاب المخالفة أو من ممارسة نشاط يتعلق بها ، وإرغام المخالف لتعويض المتضررين ."

ولأن قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل مضى على تشريعه 55 سنه وتم تشريعه في ظروف مختلفة والعقوبات المالية فيه تعد بالدنانير مثلا:

المادة 233 يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة واحدة و بغرامة لا تزيد عن 100 دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين....الخ

المادة 296 : يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة وبغرامة لا تزيد عن مئة دينار ...الخ

فإن المواطن عندما يسمع ان قرار حكم بغرامة مقدارها 100 دينار أو وقف تنفيذ العقوبة بكفالة مقدارها 250 ألف دينار يقابل الأمر بالاستهزاء والسخرية دون ان يعلم ان القاضي لا يجوز له تجاوز النصوص.

3. ومما زاد الكارثة عمقاً هو قيام محكمة التمييز الاتحادية بإلغاء قرار مجلس قيادة الثورة المرقم 120 لسنة 1994 والذي كان يسمى "التضمين"، والذي يقضي "بعدم اطلاق سراح المحكوم عليه بجريمة اختلاس او سرقة أموال الدولة أو أية جريمة عمدية أخرى تقع عليها بعد قضائه مدة الحكم ما لم تسترد منه هذه الأموال أو ما تحولت اليه أو ما أبدلت به أو قيمتها."

وفي هذه الحالة انتزعت مخالب هيئة النزاهة وباتت النصوص القانونية عاجزة عن تحقيق مهمة ردع الفاسدين ، حتى ان البعض يتندر قبل أيام بشأن مدير عام في الوقف السني ارتكب جريمة الحاق الضرر بالمال العام بقيمة أكثر من 4 مليار دينار وعاد بعد انقضاء محكوميته البالغة سنة واحدة الى وظيفته ورأس عمله ...!

4. وفوق ذلك يتيح القضاء العراقي لممثل الجهة الحكومية "المتضررة" أن ينسف القضية برمتها عندما يحضر ولا يطلب الشكوى على المتهم بدعوى عدم حصول ضرر لدائرته...!

الأمر الذي يتطلب تدارك الأمر من قبل هيئة النزاهة لتدارك الأمر واقتراح تعديل قانونها النافذ عاجلاً وليس آجلاً بما يضمن سد تلك الثغرات المميتة.

* رئيس هيئة النزاهة في العراق (سابقاً).

  كتب بتأريخ :  الإثنين 09-09-2024     عدد القراء :  1224       عدد التعليقات : 0