الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
(قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع العلم ومنتجاته التقنية. السيارة سحرٌ، والدواء المضاد للبكتيريا المُمْرِضة سحر، وترسيم الخارطة الجينية لأيّ فرد منّا سحر؛ لكنْ يبقى هذا السحر محض بلاغة يرادُ منها القولُ بعَظَمة العلم وما يتحقق منه من نتائج مبهرة.

يبدأ سحرُ العلم بفكرة تلتمع في عقل بشري، يتبعها جهد تجريبي وإعادة ترتيب وتعديل حتى ينتهي الأمر إلى ما يقاربُ حدود الفنتازيا. المشعوذون يسلكون الدرب بالمقلوب، يكتفون بالإعلانات الفنتازية الكذوبة. يحضر أمامي إسمٌ شاخص -بين مشعوذين كثيرين- لمشعوذ يريد لصنعته أن ترتفع لمقام اليقين الذي لا يمسّه الشك من كلّ الجهات. لماذا هو مشعوذ؟ ببساطة لأنّ العلم إعداداتُهُ طويلة شاقة وليست لعباً بِـ (البيضة والحجر) كما يصفون. هو يريد إختصار الوقت والجهد. هذه شعوذة مؤكّدة.

لا أظنّنا نختلف أنّ القنبلة الذرية هي الإعلان الأكثر فنتازية للعلم ومخرجاته. السبب واضح: قدرتها التدميرية الهائلة؛ لهذا يبقى مشهد التفجير الأوّل لهذه القنبلة في صحراء ألاموغوردو يوم 16 تموز 1945 ميداناً لإختبار قدرات المخرجين السينمائيين العالميين. يحصل التفجير المرعب في ثوانٍ؛ لكن أيّ جهود عظيمة كانت وراءه؟ نشاهد الفنتازيا ولا نعلم ما وراءها. يبدو (مشروع مانهاتن) الأمريكي لتصنيع السلاح الذري في بدايات العقد الأربعيني من القرن الماضي مثالاً للجهد العلمي المدعوم بقوة من المؤسسة الحكومية. بدأ المشروع بدايات خجولة مقترنة بالتشكيك في إمكانية تصنيع مثل هذا السلاح. البداية كانت بعقد منحه الجيش الأمريكي ولم يتجاوز ستة آلاف دولار، ثم مع أواسط العقد وعقب أربع سنوات حصل التفجير التجريبي الناجح بعد انفاق ما يقاربُ بليوني دولار!!. هل تتخيلون حجم هذا المبلغ في تلك السنوات؟ لكنّ الأهم من الدولارات هو: كم هو حجم الجهود التي بُذِلت في التجريب والخطأ والتعديل وإعادة التجريب في سلسلة حثيثة تكلّلت بالنجاح. الممارسة العلمية الحقيقية تجربة في العمل الشاق والمنظّم والمنضبط وعالي التكلفة أيضاً. كثيرةٌ هي الكتب التي تحكي عن مشروع مانهاتن أو نظرائه (مشروع أبولو، مشروع الجينوم البشري،،،،،).

ما أريدُ قوله أنّ الإعلانات الفنتازية للعلم هي الطور النهائي فيه، ولا يمكن قلبُ السلسلة لنجعل الفنتازيا تتقدّمُ على الجهد المنظّم. مثالي في هذا هو (قطّة شرودنغر) التي صارت عنواناً للعديد من الكتب التي يسعى مؤلفوها لإشاعة الثقافة العلمية. هذا مسعى محمود بالتأكيد؛ لكنّما الخلل يحصل حتماً عندما نتصوّرُ أنّ العلم (الفيزياء بالتخصيص) كله هو فنتازيا. نتخيّلُ مثلاً أنّ أساتذة أعظم الجامعات المرموقة في العالم لا يدرّسون شيئاً سوى قطّة شرودنغر: أهي حية أم ميّتة؟ يتوجّبُ أوّلاً تحصيلُ خلفيةٍ معرفية معقولة وكافية عن الأسس المتينة للعلم وإلّا فإنّ الغرق في مستنقع الفنتازيا سيكون محتّماً، وسنخسرُ التدريب العلمي المفضي لنتائج مفيدة ولتقنيات رائعة.

يرتبط مثالُ (قطّة شرودنغر) جوهرياً مع السياق التاريخي لتطوّر نظرية الكم. إحدى التفسيرات التي قُدّمًتْ لهذه النظرية في منتصف خمسينيات القرن العشرين هو تفسير (العوالم المتعدّدة أو المتوازية)، ويبدو حلاً لمعضلات مفاهيمية في هذه النظرية. مع هذا يوجد العديد من العلماء ممّن يرون مثل هذه التفسيرات موغلة في الغرائبية وبعيدة عن التأكيد التجريبي؛ ولأجل هذا يرفضونها أو في الأقل لايقبلونها في الوقت الحاضر. لم تلتهمهم سطوة الفنتازيا برغم كلّ جمالياتها وفتنتها، وتسويغُهُم في هذا أنّ العلم منشط بشري لا يصحُّ خرقُ أصوله التجريبية بدافع جمال الأفكار وغرائبيتها.

كثيرون -وأنا منهم- يحبّون القراءات العلمية رغم توجهاتهم المهنية التي تبدو بعيدة عن العلم. هذه القراءات ليست تطفلاً ذهنياً بقدر ما هي ضرورة لازمة. من الأفضل لنا أن نحوز شيئاً من معرفة بالتوجهات العلمية الرئيسية في عصرنا. هاكم مثالاً آخر عن الحدود الفنتازية في العلم. أظنّ أنّ العديد منّا قرأ كتاب (الكون الانيق) لِـ (بريان غرين)، و لا بدّ أن مرّت به في هذا الكتاب أو سواه عبارة (نظرية الاوتار String Theory). هذه النظرية يراد لها أن تكون النظرية النهائية أو نظرية كل شيء Theory of Everything. في مقابل مؤيّدي هذه النظرية من فيزيائيين كبار يوجد نظراء لهم لا يقبلون هذه النظرية بسبب الإستعصاء التجريبي لها. قد ينتابكم العجب لو سمعتم أنّ أحد المدافعين عن هذه النظرية يقول أنّ الرياضيات الخاصة بصياغة هذه النظرية تبدو جميلة للغاية؛ لذا لا يمكن أن تكون النظرية خاطئة!!. هو ببساطة يستبعد المعيار التجريبي ويرتكن إلى نوع من المثالية الأفلاطونية المحدّثة. ربّما من المفيد التذكيرُ بأنّ أحد معايير منح جائزة نوبل في الفيزياء هو خضوع النظرية للتجربة ونجاحها فيه. النجاح بالطبع هو تطابق النتائج النظرية مع المخرجات التجريبية. شرودنغر حصل على جائزة نوبل بعد خضوع النظرية التي ساهم في تطويرها طور الإمتحان التجريبي. لا أحد في لجنة نوبل فكّر في منحها له بسبب قطّته نصف الحيّة ونصف الميّتة!!.

تبدو الحرب التقنية اليوم شاخصة في ميدان تصنيع الرقائق. حمّى التصغير النانوي بلغت حدوداً ذرية. الحديث يدور في نطاق إثنين أو ثلاثة نانومتر. هذه فنتازيا حقيقية سنختبر مفاعيلها في أجهزتنا الرقمية بعد زمن قصير. الفنتازيا صارت مشهودة اليوم، ولم تعد ألعاباً فكرية خالصة.

الدهشة بالعلم جميلة بل مطلوبة لأنّها توفّرُ الطاقة اللازمة لشحن بطارياتنا ومواصلة المسعى نحو آفاق جديدة؛ لكنّما القاعدة هي أنّ الدهشة تأتي لاحقة للفهم والجهد، ولا يمكن أن تسبقهما أو تكون بديلاً لهما. لو حصل هذا السبق فهذا يعني أنّنا نريد العلم ملهاة فحسب من غير حساب ما يترتّبُ على هذه الملهاة من خسارات مؤلمة.

العلم شغف ورؤى وجهود وتجريب وسياسات حكومية وتخصيصات مالية ومراكز بحثية وثقافة. الفنتازيا هي آخر إعلاناته وشواهده. لن نستطيع رؤية المشهد الأخير في هذه السلسلة قبل المرور في كلّ حلقاتها. هذه حتمية من دونها لن نختلف كثيراً عن الحمقى والدجّالين.

  كتب بتأريخ :  الأحد 24-11-2024     عدد القراء :  657       عدد التعليقات : 0