رأيتُهُ على اليوتيوب. كان رجلاً أربعينياً يسترُ جسدَهُ بأسمال بالية، ينتحبُ باكياً وهو يعدّدُ أعطال جسده حتى ليظنَّ المرء أنّه خرج لتوّه من القبر. بعد هذه المرثية الطويلة الباكية إلتفت إلى أطفاله. قال وهو يسعى جاهداً لإستدرار العطف والشفقة: وهؤلاء أطفالي العشرة، من لهم؟ من سيعيلهم؟ بدا الأمرُ باعثاً على أعلى أشكال السخرية: هو يأتي بعيال كثيرين لا يعرف من أين يعيلهم، ويفترضُ أن الآخرين مسؤولون عن اعالتهم. أظنّه يقصد الحكومة!!. يندهش المرء لمرأى هذا الرجل وتنتابه هواجس وظنون شتى من أنّه ربما يمثّلُ دور العاجز؛ فيتساءلُ مستفهماً: لماذا كلّ أعضاء الرجل خَرِبَةٌ معطّلة باستثناء جهازه الهضمي والتكاثري؟ وهذا مثال. آخر: تخاطبُ طبيبة نسائية إمرأة أربعينية ملتفّة بعباءة: أنت حامل بطفلك الثاني عشر. أليس هذا كثيراً؟ متى ستتوقّفين (حجّية) عن الولادة؟ فتجيبها مع ضحكة متغنجة: عندما يبطّل (الحجّي)!!. أظنُّ شهوة (الحجّي) لن تخفت يوماً ما؛ فهو يريد تكثير نسله حتى يباهي به الآخرين. لم يسمع (الحجي) بالقنبلة السكانية وما قد تصنعه من بلايا ومهالك. لا علاقة لِـ (الحجّي) بالسياسات التنموية من قريب أو بعيد؛ فهو يرى نفسه وزوجته معملا لتفريخ البشر.
لا أعرف السبب الذي جعل الرأس التنفيذي الأعلى للحكومة يخرج علينا بذاته ليعلن البيانات الأولية لنتائج التعداد السكاني. هذه مسؤولية وزارة التخطيط، وهي لا تعني شيئاً بلغة الأرقام المجرّدة. بدا وكأنّه يزفُّ للعراقيين أخباراً سعيدة. أظنّهُ يحسب بناء المجسّرات وزحف أعداد العراقيين نحو عتبة الخمسين مليوناً هو ما يصلحُ تسويقاً إنتخابياً جيّداً له.
مع بداية ثمانينات القرن الماضي كان عدد العراقيين إثني عشر مليوناً ونصف المليون. عددٌ معقول يمكنُ أن يحظى بخدمات ممتازة ويعيش حياة كريمة. لنتذكّرْ مثلاً أنّ مساحة الأراضي الموزّعة للسكن في بغداد العاصمة في بداية سبعينات القرن الماضي كانت بمساحات 600 متر مربع، يبني المرء بعضها ويترك ثلثها أو ربعها لتكون حديقة جميلة. لم يكن بيت بغدادي يخلو من حديقة. كنتَ تمشي في ربيع العصاري البغدادية فتغمرك اشذاء الشبوي والقدّاح المنعشة. اليوم صارت مثل هذه المشاهد حلم ليلة من ألف ليلة. صارت الناس تتزاحم على السنتمتر المربع الواحد. لا تحدّثْني عن الحدائق؛ فتلك (رفاهية) بغدادية غابت مع أصحابها الراحلين.
بدأ الإختلال البنيوي مع حرب الثماني سنوات. عندما يعيشُ المرء حالة طوارئ ممتدة تغيب معها حالة الإسترخاء وتحضر عوامل الإمتاع اللحظوي وبخاصة عندما تتهدّد حياةُ المرء في جبهات الموت. ويخشى فقدان حياته في أية لحظة وهو لم ير شيئاً من حياته بعدُ؛ فينقلبُ كائناً بجهازين: هضمي وجنسي. دققوا في صور العراقيين قبل مرحلة الثمانينيات وما بعدها: كانوا نحافاً أنيقين، تبدو على إماراتهم علائمُ الإسترخاء والتطلّع إلى مستقبل يصنعونه بجهد ومثابرة. إنقلب الحال بعد حرب الثمانينات. كبرت الكروش بفعل النهم و الطعام الذي زادت مناسيب الكاربوهيدرات والسكريات فيه ليحصلوا منه على شعور ٍ فوريٍ بالسعادة والشبع، كما تكاثرت الولادات وانفجرت الأعداد المليونية بتشجيع السلطة للانجاب تعويضا عن الضحايا.
أذكر أغنية شعبية للمطرب المصري (أحمد عدوية) عنوانها (زحمة يا دنيا زحمة) تكشف تماماً عن المفاعيل الخطيرة لهذه الأعداد المليونية المنفلتة. الشطر الثاني من الأغنية يقول (زحمة ولا عادش رحمة). هنا مربط الفرس. هذه الأعداد المليونية ستكون ميداناً تطبيقياً مثالياً لإختبار الداروينية الإجتماعية. سنرى التغالب والتصارع في أعلى أشكاله. ستغيب الأخلاقيات وتنقلب الحياة إلى ميدان صراعي لا يعيش فيه إلا الشاطر. ومن هو ذلك الشاطر؟ هو الذي يعرف كيف ينتزع لقمته من فم الذئب. حتى الخبز سيكون ميدان صراع. الحكومات لن تستطيع مهما أوتيت من رؤية وعزم وقدرة على التخطيط أن تديم حياة مقبولة بالمقاييس الإنسانية الدنيا لهذه الملايين المتكاثرة فكلّ تطوّر في الناتج المحلي السنوي ستأكله الأعداد المتزايدة من السكان، ولنا بعد هذا أن نتصوّر كيف سيكون الحال لو كانت الحكومات طفيلية فاسدة كلّ وظيفتها إعادة تدوير بعض العوائد النفطية بهيئة رواتب، ولسان حالها يقول: نحن أعطيناك الراتب، ماذا نفعل لك أكثر من هذا؟ وتنسى الحكومة أن الرواتب لاتشمل الا ربع العراقيين تقريبا. هنا تكمن مقتلة الحكومات الفاسدة التي لن تستطيع التفلّت من هذه الحقيقة.
ثمّة جانب في موضوعة التفجّر السكّاني أود التحدث عنه، وهو مساءلة ذات طابع فلسفي في سياق خيال علمي بعيداً عن إحتدامات الداروينية الإجتماعية ومفاعيل القنبلة السكّانية. دعونا نتخيّلْ مستقبلاً بعد عدد من السنوات -قد يطول أو يقصر- نمتلك فيه القدرة التقنية للتواصل مع دماغ الجنين وهو في رحم أمّه. ولنفترضْ أنّنا حينها سنمتلك بيانات ضخمة خاصة بوالدَيْ هذا الجنين والظروف المتوقّعة لحياته تأسيساً على الواقع الحالي. بإختصار سيكون بوسعنا تمرير معلومات للجنين عن شكل حياته القادمة: ما الأمراض التي سيعانيها؟ كيف سيكون وضعه الإقتصادي وموقعه الوظيفي في التراتبية الإجتماعية؟ كم هو عدد السنوات المفترضة التي سيعيشها؟ أظنّ أنّ الكثرة من هؤلاء الأجنة لن ترتضي مواصلة الحياة في البيئة العراقية، وستفضّلُ إجهاضها بدلاً من حياة لا تراها لائقة بها. هل تتخيلون معي كيف سيكون شكل الحياة في العراق بعد خمسين سنة من اليوم؟ المستقبل لا تصنعه (العفرتة) أو اللعب أو إضاعة الفرص. من لا يعمل بجدّ في صناعة مستقبله لن يلقى سوى الخراب. هذه يقينية مؤكّدة.
أكتبُ هذه الكلمات وأنا أرى أمامي مشهداً أظنّه سيكون من المشاهد اليومية المعتادة بعد عشر سنوات: يناقش طفل في العاشرة والده بحدّة في موضوعات معيشية مختلفة: لماذا لم تبنِ لنا بيتاً؟ لماذا نحن محشورون في بضعة أمتار مربعة؟ لماذا لم تسجّلني في مدرسة أفضل من مدرستي المتهالكة بناءً ومعلّمين؟ لماذا سيارتنا قديمة ومن موديل سيء؟ ثمّ سيعمد بعد هذا إلى سلسلة مقارنات: أنظر فلاناً وفلاناً، أين يسكنون، وماذا يأكلون وأي سيارة يركبون؟ ثمّ قد تنتهي المساجلة بعبارة أقسى من طعنة خنجر مسموم: إذا كنت تعرف أنّ ظروفك سيئة؛ فلماذا جئت بي إلى هذه الحياة؟ أتتلذّذُ بتعذيبي؟ لسانُ حاله يردّدُ مع (أبي العلاء): هذا جناه عليّ أبي. سيخطئ كثيراً من يظنّ العقوق في سلوك الطفل. الأب هو من أخطأ ولم يتحسّبْ لنتائج متعته.
ضاقت الأرض بمن عليها، والغريبُ في الأمر أنّ الأكثر فقراً وتخلفاً هو من يباهي بكثرة نسله. لو بقي العراقيون يتناسلون مثلما يفعلون اليوم بنسبة تكاثر مقدارها 2.3% في السنة (كما يصرّح الرأس التنفيذي للحكومة) فلن يصلحوا بعد سنوات، ووسط هذا التخلف المريع والفساد الضارب، سوى أن يكونوا شهوداً صالحين للإحتفاء بطيّبيْ الذكر: داروين وأبي العلاء المعري.
انضم الى المحادثة