كان شاغل الشَّاشات والإعلام، عندما سقط نِظام الرّئيس صدام حسين(قُتل: 2006) - الحاكم جناح حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ العِراقيّ(1968-2003)- أخبار القبور الجماعيَّة، في كلِّ لحظة يُكتشف أخدود، وأخذت تُجمع رفاة المقبورين في أكياس؛ مَن شهد الواقعة لم ينس الشّاب الذي أخفته أُمه في حفرة؛ على شكل غرفة صغيرة تحت الأرض لعشرين عاماً، ومشاهد مريعة، كانت تُبث مِن الفضائيات تباعاً؛ هذا ما صاحب إعلاميّا الحدث العراقيَّ.
أمَّا في الحدث السُّوريّ- الحاكم الجناح الذي اعتدنا نسميه باليساريّ- فكان الشَّاغل سجن "صيدنايا"، المنطقة التي سميت باسم القديسة الزَّاهدة "صيدنايا"(القرن الخامس ميلادي)، وفيها ضريحها، وهي منطقة بضواحي دمشق، رأيتُ على واجهته (2007) حين زرته، لوحة تحكي قصة اكتشاف الضَّريح، فكلاب الصيد تقف قريباً منه ولا تصل إليه، وهذه القصة نفسها تحكي اكتشاف قبر الإمام عليّ بن أبي طالب بالنّجف، عندما كان هارون الرّشيد(تـ: 193هج) يتصيد في تلك الفلاة، فكلابه كانت تقف عند التلة التي تضم القبر؛ وصيدنايا عاشت وماتت قبل الإسلام، مثلما هو مؤرخ لها.
ما فعله النّظام العراقيّ أنه فتح السّجون للمعارضين، أو المشكوك بولائهم، ولتُهم أو جرائم غير سياسية، قُبيل سقوطه. لذا؛ لم يكن السِّجن حاضراً في المشهد، وقد قُدر عدد الذي حررهم النِظام بمئة وعشرين ألف سجين. أمَّا النّظام السُّوريّ فحلَّ نفسه، ولم يكن لديه وقت للتفكير بما سيتركه مِن وثائق حيّة ضده؛ فاكتُشفت قصص فظيعة مِن داخل السّجن، والبحث جرى عمّن تحت الأرض، ممَن لا يعرف ليله مِن نهاره، ومَن خرج مفجوعاً، مِن هول ما مرّ عليه، وصار "صيدنايا" شغل الإعلام الشّاغل، وما ضم مِن رعبٍ.
بينما كان لدى رأس النّظام السوريّ سنوات كافية(2011- 2024)، وقد ألتقط أنفاسه، أنّ يحرر السّجناء، ويعلن إلغاء السّجن؛فقادة جناح البعث العراقيّ قاموا بإلغاء سجن "نقرة السَّلمان" الرَّهيب(1968)، وفتحوا مكانه "قصر النَهاية"، الأكثر رعباً، وهو قصر الرَحاب سابقاً، قصر العائلة المالكة العراقيّة، (استخدم في عهدهم الأول 1963 فأُعيد مكاناً للعذاب ضد السياسيين في عهدهم الثَّاني 1968)، ثم أغلقوه بعد مؤامرة مدير الأمن العام ناظم كزار(1973)، وقد علقوا به كلّ ما جرى مِن رعب على العراقيين، في تلك الفترة، وكانت واحدة من مغريات إعلان الجبهة الوطنيَّة مع الحزب الشيوعي العراقي، مباشرة بعد الحدث(1973 - 1979). أقول لو فعلها جناح البعث السّوري، ولو مِن باب كسر الخواطر، والغى السجن المذكور، لكنه كابر، حتَّى لم يبق لديه وقتٌ كي يخفي ما يدينه.
مَن يقرأ التّاريخ سيجد لسجن "صيدنايا" تراثاً ضارباً في القِدم؛ والسّجن تحت الأرض لم يكن حالة شرقيّة؛ فقد مورست شرقاً وغرباً، وهنا لستُ باحثاً إلا في ما يتعلق بتاريخها العباسيّ؛ ولا نظن أنْ مَن مارسها قد قرأ تلك التَّجارب وقام بتطبيقها، إنما تكررت مِن باب توارد خواطر، تفرضها طبيعة الطُّغيان، والحبس تحت الأرض أقصى قسوةً يُعذب بها الإنسان، فحجب النّور يؤدي إلى العمى، وفقدان الشعور بالزَّمن، وهذا ما توصل إليه الأقدمون، فأبدعوا سجناً عُرف بـ"المطِبق"، أي يعيش فيه الإنسان منفصلاً عن كلّ شيء، إلا مِن أنفاسه، يُطبق عليه الموت ولم يمت، وهذا ليس ليوم أو يومين، إنما مَن يدخله لا يخرج إلا إلى قبره، ولأنّه أقسى وأفجع مِن الموت، فلا يُرحم بالموت؛ وهذا عين ما قاله وقصده أبو الطَّيب المتنبيّ(اغتيل: 354هـ): "كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا/ وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا"(اليازجي، العرف الطّيب في شرح ديوان أبي الطّيب).
كانت البداية، قبل بناء المطّبِق أنّ حبس أبو جعفر المنصور معارضيه تحت الأرض؛ كالسرّداب الذي حَبس فيه الثّائرين عليه، عبد الله بن الحسن المثنى وأخوته، وبينهم حفيد عثمان بن عفان، وكان أخاهم مِن طرف الامّ، فاطمة بنت الحُسين بن عليّ بن أبي طالب.
بعد تأسيس بغداد(145هـ) عاصمةً شيد المنصور سجناً عنوانه "المطبِق"؛ "لأنْه أطبق مَن فيه"(اليعقوبيّ، كتاب البلدان). كذلك عُرف بـ"حبس التَّخليد"(ابن الطقطقيّ، الفخريّ في الآداب السُّلطانيَّة)، فمَن يدخله لا يخرج، إنه "قصر النّهاية" تماماً. بهذا المعنى قال طهمان بن عمرو الكلابيّ(تـ: نحو 80 هـ)، وكان مِن لُصوص العرب الشّعراء، أتينا على ذكره في كتابنا "لُصوص الأموال ومنتحلو النصوص". قال طهمان في المطبق: "أقول لبوابيَّ والسُّجن مُطبقٌ/ وطال عليَّ اللَّيل ما تريانِ". قال القاموسيّ أو المعجميّ المرتضى الزَّبيديّ(تـ: 1205هـ) في معنى المُطبِقِ: "سجن تحت الأرض"(تاج العروس).
بعد وفاة المنصور(158هـ)، قام ولده المهديّ(حكم: 158-169هـ)، عندما تولى الأمر، بإطلاق السُّجناء، إلا مَن سُجن بدمٍ أو قتل، وبينهم سجناء "المطبِقِ"، فكان ممَن أُطلق يعقوب بن داود، وكان محبوساً مع أحد العلويين، وهو الثائر الحسن بن إبراهيم حفيد الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وتدور الأيام ويصبح يعقوب وزيراً لدى المهدي ابن المنصور، بينما ظل الحسن مسجوناً في المطبق، فقام الوزير بتهريبه، مِن السِّجن، لكن ألقي القبض عليه، ولما سأل المهدي وزيره عن السَّجين قال قد مات، وكان موجوداً عند المهدي، فأعيد الوزير إلى المطبق، وظل سجيناً فيه حتى أطلق سراحه الرَّشيد(حكم" 170-193هـ)، فقال: "حبستُ في المطبق، أُتخذ لي فيه بئر، فدُليت فيها، فكنتُ كذلك أطول مدة، لا أعرف عدد الأيام، وأصبتُ ببصري(فقد بصره)، وطال شعري، حتّى استرسل كهيئة شعور البهائم"(الطّبريّ، تاريخ الأُمم والملوك). كذلك كان أحد أبرز سُجناء "المطبق" نجل آخر خلفاء بني أُمية، عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، رمي في المطبق، وهو المتوفى فيه السّنة (170هـ).
رمي في سجن المطبِق(تحت الأرض) الطّبيب بختشيوع(تـ: 256هـ)، طبيب الخليفة جعفر المتوكل(قُتل: 247ه،) مع إثقاله بالحديد، كما سُجن فيه المغني والموسيقار، ذاع الصيت في زمانه، إبراهيم الموصليّ(تـ: 213هـ)، فأرخ الشّاعر أبو العتاهيَّة(تـ: 211هـ) هذا الحدث قائلاً: "سَلْم يا سَلْم دونك سرُ/ حُبسَ الموصليّ فالعيشُ مرُّ/ مَن استطاب اللذات منذ غاب في المطـ/ بِقِ رأس اللذات في النَّاسِ حرُّ"(الشَّالجيّ، موسوعة العذاب، عن ابن خِلكان، وفيات الأعيان). كذلك دخل المطبِق الشّاعر أبو نواس(تـ: نحو 198هـ)، لاتّهامه بقول يخالف الدِّين، فقال الرّشيد(حكم: 170-193هـ): "عليَّ بابن الفاعلة، وطرحه في المطبق". أُطلق سراح سجناء "المطبق" بعد وفاة ولي العهد الموفق بالله طلحة بن جعفر المتوكل، السّنة (278هـ)، وكان حينها مع أخيه الخليفة المعتمد بالله(تـ: 279هـ)، يمثل الحاكم الفعلي.
عن سجون تحت الأرض، كان إلى جانب سجن المطبق ما يُعرف بالطَّامورة، وجمعها طوامير، حُبس فيها كثيرون، مِن أمثال الفيلسوف المقتول أحمد الطَّيب السّرخسيّ(قتله المعتضد 286هـ)، وكان صديقاً ونديماً للمعتضد بالله(تـ: 289هـ)، كذلك كان الحبس ينفذ بالمتَّهمين، أو المعارضين في "الجب"، وهو البئر العميقة، وكذلك مورس الحبس في السَّراديب، وكلها تحت الأرض، لكنَّ أفظعها كان "المطبِق"، والذي قال أحد نزلائه: "دخلتُ السّجن شاباً بصيراً، وتركته شيخاً ضريراً"(الشّالجيّ، موسوعة العذاب).
كذلك ظهر سجن المطبق بقرطبة لدى الأمويين بالأندلس؛ ومكانه داخل قصر قرطبة، سُجن فيه وزراء(القرطبيّ، المقتبس مِن أنباء أهل الأندلس)؛ وقد أُشير إلى وجود ما عُرف "ببيت البراغيث" داخل السجن المذكور(ابن عذاري، البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب)، هذا وقد وردت أخبار مطبِق الأمويين بالأندلس، سنة (210هـ و221هـ)، من تاريخ قرطبة.
لم يكن المنصور المتفنن الأول بأنواع السّجون والعذاب فيها؛ فقد ذكرت الروايات أنَّ للحجاج بن يوسف الثَّقفيّ(حكم العراق: 75-95هـ) سجنين، أحدهما واسع مفتوح على السّماء، في الحرّ والبرد، وكان محاطاً بأسوار، عليها حُراس يشرفون على السّجناء، فمن يرونه يظلل وجهه بيديه يرمونه بالحجارة، مِن على الأسوار. كان السّجناء يسقون "الزَّعاف"(سُم قاتل)، "ويطعمون الشَّعر المخلوط بالرَّماد"، حبس فيه الرّجال والنّساء معاً، أي في مكان واحد(الشّالجي، عن مروج الذهب، والعيون والحدائق، ومحاضرات الأدباء).
أمّا السّجن الحجَّاجي الآخر، فيُعرف بـ"الدّيماس"، وكان ضيقاً جداً، لا يجلس على أرضه السّجين إلا القرفصاء، لضيق المكان، وكلّ جماعة يربطون بسلسلة واحدة، ويأكلون في المكان وفيه يتغوطون(موسوعة العذاب، عن ابن أبي الدُّنيا، الفرج والشّدة). كما كان للحجَّاج مسؤول عن العذاب، يُعرف بـ"صاحب العذاب"، واسمه معد(التّنوخي، الفرج بعد الشّدة).
اشتهر قبل المنصور والحجَّاج سجن "عارم"، بناه عبد الله بن الزَّبير(قُتل: 73هـ) بمكة لمعارضيه، ففيه قال كُثير عزَّة(تـ: 103هـ): "تحدث مَن لاقيت أنّك عائذٌ/ بل العائد المحبوس في سِجن عارمِ"، سمي باسم أول سجين فيه "عارم"(الطبريّ، تاريخ الأُمم والملوك).
تعددت السُّجون، فمن غير المطبِق، الذي اختص في زمن أبي جعفر المنصور بالسياسيين، ومِن غير الطّوامير، التي استحدثها المعتضد العباسيّ(تـ: 289هـ)، وهدمها خليفته المكتفي بالله(حكم: 289- 295هـ)، كان يجري الحبس في البيوت، وما يُعرف اليوم بـ"الإقامة الجبريَّة"، لكنْ ليست البيوت العادية، إنما البيوت المظلمة، والحبس في السّرداب، وفي "زورق مطبق"، والحبس في الاصطبل، وفي الأقفاص، وكان أفظعها إهانةً الحبس في "الكنيف"(المراحيض)، والحبس في دار المجانين، والأخيرة ممارسة قديمة حديثة، ومِن السُّجون ما كانت تُعرف بـ "الغامضة"، وقد عُرف منها في عهد القاهر العباسيّ(تـ: 328هـ) ببغداد(انظر: موسوعة لعذاب).
يقول معروف الرُّصافيّ(تـ: 1945) في وصف السُّجون، مِن المُطبِق إلى قصر النهاية وصيدنايا: "مقابر بالأحياء غصَّت لحودها/ بخمسٍ أو بمئتين أو بأزيدِ/ تواصلت الأحزان في جنباتها/ بحيثُ متى يُبلى الأسى يتجددُ".