ما ضرّكَ الموتُ، موتُ الحرِّ إيـثارُ بـه الخـلودُ وما فـي المـوتِ مختارُ
بئسَ الخطوبُ الـتي خالت تروعـنا لو بِــنْتَ عــنّا وإن شــطّـَـتك أقدارُ
من وهنةِ النّومِ يصحوالعقلُ منشرحا تـمتـدُّ مــن ضوعهِ للــمجدِ أعــمارُ
أذ ذاك يجـلو زمـانٌ فاســدٌ، وخــمٌ قــد خطَّ دســتورَهُ السـفّاحَ أشرارُ
في الموت يصبو رفاقُ الشّعرقاطبةً ويحسـدون عليك الـخُلـدَ إن غاروا
فأهنأ لموتٍ سعيـــــدٍ كنتَ تنشـــده وتشــتريه، ومــا للمـــوت تجّــــارُ
ما ضرَّك الموتُ ذا دينٌ ومقترضٌ والعمرُ طيفٌ مضى والمرءُ بحارُ*
خالوك متَّ غريباً إذْ نفوكَ ضُحًى وأنـتَ بـــاقٍ وعمرُ الظّلمِ معشــارُ
وذي بلادُك، شاءَ القومُ أم رفضوا والدارُ دارُك أنّــى حلّـــتِ الـــدارُ
أنت الحبيبُ وأرضُ الشّامِ عاشقةٌ وما نأيـتَ، فــلا بِــيــدٌ وأمصــارُ
سيصرخُ العفرُ في الجُلّى بلا وجلٍ أنا العراقُ وبــاقي الــبعــدِ أشـبارُ
وقد وَطِئْتَ ثراها صــابيا، ثــمــلاً تحدوكَ من أنبلِ الأشـــعار ِأشعارُ
فإن تعشّــقتَها، لا مُشْــتَــهٍ وطـنـاً بل قدرَ ما يدمنُ الأفيــــونَ خمّارُ**
وإن نحبــتَ على أرضٍ مجـاورةٍ كـأنّـمــا دونــهـا قـــفــرٌ وإبــحارُ
هذي خصالُ نبيلٍ، صادقٍ، وَلِـــهٍ والعشــقُ أولُهُ، والــوجدُ ســـهّارُ
نبكي المَواطن، تقصـينا، ويــتبعنا من جورها لــبلادِ النّفيِ أوجـــارُ
ما ضرّكَ الموتُ،لا نبكيكَ،نحنُ بنا الدّمـعُ طـبـــعٌ بــلا أســبابِ ينهارُ
واللهِ نــبكي إذا يومـــا يـــعاودنــا ذكرُ العراقِ وجاءت منهُ أخبارُ
وهو العراقُ الذي ما زالَ يرصِدُنا كمُخبرِالأمنِ في برديهِ أوضارُ
أنّى مضـينا، أتـتنا منــــهُ صافعـةٌ وحـورت عشقنا للشــــكِّ أوزارُ
نبكي على كائنٍ مـاتَ الضّميرُ به "بذُّ" الفؤادِ، عديمُ الخلقِ، غــدّارُ
القتلُ والبطشُ بعضٌ من سوابقـهِ ومــا تخــيّــلَ أنَّ الــدهــرَّ دوّارُ
نبكي على أمّةٍ يفنى العـظيمُ بـها كما تســـاوى بها شوكٌ وأزهارُ
تباركُ الجاهلَ الغــافي وتــكرمهُ ويمتطيها صغيرُ القومِ، سمسارُ
وما لها ولــهذا الكونِ من صــلةٍ تحدو بها من عصورِالجهلِ أوطارُ
تهابُ من شاعرٍ لو صاحَ يُخْصِفُها خَصفَ النّعالِ، فبالأشعار ِأخطارُ
وهو البجيلُ الذي كتَّ الدّموعَ لها ورجفةَ القــلبِ مــا غــنّاهُ قــيثارُ
وشـــعَّ والدّرُّ بعــضٌ مـن فرائدهِ وقلَّ كالمـاس، لو للْمـاسِ مـعيارُ
النخلُ والدوحُ في الشّطّين يعشقهُ في كــلِّ نفـــسٍ لــهُ وقعٌ وتذكارُ
ورخّصَ الروحَ من منفى لمعتركٍ تطــويهٍ كــارثةٌ أعــتى وأكــدارُ
قرنٌ مديـدٌ مضى والغـمُّ تـابـعُـــهُ وفــوقَ مــتـنـيــهِ أعـبـاءٌ وأوقـارُ
ما كادَ ينفضُ عفراً عن ملابســهِ حتى قــفـتهُ لهولِ النـّفيِ أســـفارُ
يغفو العراقُ قريرَ العينِ مغتبقــاً وذا يـنـوحُ بدمــعٍ لونـــــهُ القــارُ
من قبل ألفٍ، به الأحقابُ توعدنا وبعد ألفٍ، سيسري أينما سـاروا
قومٌ تغنّوا وقالوا الشّعرَ إذْ عشقوا أو حـــاربَ الظّلمَ والظّلاّمَ ثوّارُ
أبا الفراتين، من جوعٍ ومن سقَمٍ بــه علــيمٌ ولا تخــفاكَ أســرارُ
ومن جراحِ جـليـلٍ حــاملٍ بـــيَدٍ نجلاً ببلســـمهِ والخـــبز محتارُ
من ضنكةِ العيش، من بؤسٍ ومبكيةٍ أنبــيك نحــنُ العراقــيين أحرارُ
ما كادَ يخرجُ منّا عن مشــيمتــهِ طفلٌ، يحفّزهُ للـوتـــــرِ وتّــــارُ
دماؤنا كــبراكــيـــنٍ مـــؤقـــتــةٍ نـارُ تصولُ بها مـــا بعدها نارُ
في لحظةٍ يستشيطُ الغيظُ منفجراً وينجلي الجورُ والأصنامُ تنـهارُ
ويدركُ الوغدُ والأرذالُ ما وُجِدوا أيَّ الرّجالِ تخطّوا عندما جَاروا
تباً لمنْ لا يراعي غيــــظَ جائعِنا ويلٌ لمــــن غــرَّهُ ســيفٌ وأنفارُ
هم خيّرونا بعيشِ الذّلِّ في وطـنٍ فكيفَ بين الرّدى والموتِ نختارُ؟
ونحنُ تجري طباعُ النّخلِ في دمِنا يــموتُ منتصباً لوْ حــمَّ إعصارُ
يشدو بأشـجانه والتّمرُ في يـــدهِ عدا السّـــماءُ فــلا يعــلوهُ مقدارُ
لا يرتضي الذّلَّ إلّا من به عورٌ ولا المهانــة إلّا مــــن بــه عــــارُ
أهلوك نحنُ، حدودُ الشّرِّ تدرُكـنا والصّدقُ والنّــبلُ والعــذّالُ والـجارُ
ما راعنا الضّيمُ والتّعذيبُ قرّحنا أو شــــــلّنا بمهــبِّ الـــــويلِ تيــّارُ
تلك السّجونُ وذاك البطشُ يسبقها نزفُ الجراح التي في روعها حاروا
واستفحلَ الشّـرُّ واستخلى بنا قدرٌ مــرُّ المنــاهلِ، مســــمومٌ، وجزّارُ
أهلوك مـــن وهبوا أغلى فتوّتِهم لحومةِ الحربِ لا شـــكوى وأعذارُ
وقدّموا كنذورِ العـــيد إخـــوتَهم للموتِ، والأرضُ دارت أينما داروا
وقسّــموا وأضافوا بعدما طرحوا وكلُّ ما ظــلَّ أوهـــــامٌ وأصـــفارُ
نعمَ الرّجالِ، ولكنْ جاعَ أشطرُهُم واليومَ بالخبزِ، حافي الخبزِ، يحتـارُ
حدّق بما اسطَعْتَ من وسع المدى بصراً تجِدْ جياعاً بمحضِ الصّبر تقتارُ
ووسط هذا الخنا يحـــدو بنا أملٌ لنـا ســتهطلُ بــعد الغــيمِ أمـطارُ
غــداً أراهُ بلا وعــدٍ ولا خــــبرٍ يأتي فترقصُ في لــقياهُ أطيارُ
والهورُ والجبلُ العملاقُ يحضنهُ والنّخلُ والتّينُ والزّيتونُ والغارُ
وحينذاك ســـيعلو مــنهُ منتصبا صرحٌ ويأتــيهِ أحبــابٌ وزوّارُ
يبقى سراجاً بحلك اليمِّ مؤتـــلقا للفقرِ مُنتصِفٌ، في العُــتمِ نوّارُ
يمشي الرجالُ على آثار خطوته ويورقُ الرملُ عطراً فيه انضارُ
ما ضرّهُ الموتُ موتُ الحرِّ عُبّارُ إلى الخلودِ وما في الموتِ مختارُ
٢٧-١٠-١٩٩٧ بتسبرك- بنسلفانيا
*قال الجواهري: قالوا الحياةَ: فقلتُ دينٌ يقتضى والموتُ قيل، فقلتُ: كانَ وفاءَ
**قال أيضا عن دمشق:
وسرتُ قصدكِ لا كالمشتهي بلدا لكن كمن يتشهّى وجه من عشقا
*أُنشدت القصيدة في الأمسية الشّعرية التي أقامتها الجالية العراقيّة والجمعيّة المندائيّة في ميونخ، ألمانيا، في تمّوز ١٩٩٩.
نُشرت القصيدة في ديوان أغانِ لوردة الصّباح، دار المدى، دمشق، ٢٠٠٠ ص ٤٩-٥٦